عبدالنبي الشعلة **
** وزير العمل والشؤون الاجتماعية بالبحرين سابقًا
ضمن العديد من الخُطط والمبادرات والبرامج الهادفة إلى إصلاح وتطوير سوق العمل، استحدثت "هيئة تنظيم سوق العمل" بمملكة البحرين نظامًا جديدًا سمي بـنظام "التصريح المرن" أو نظام "الفيزا المرنة" الذي يرمي إلى رصد وحصر وتصحيح أوضاع العمالة الأجنبية السائبة أو غير القانونية أو ما يسمى في منطقتنا فقط بـ "فري فيزا" والتي يمكن ترجمتها إلى "رخصة الإقامة الحرة" مع أنَّ الحرية لا تعني الانعتاق والإفلات من الأنظمة والقوانين ومخالفتها.
إن ظاهرة العمالة السائبة أو غير النظامية ليست جديدة أو طارئة، لكنها أصبحت اليوم تشكل تحديًا أشد صعوبة وخطورة وتعقيدًا بالنسبة للمسؤولين عن أسواق العمل ليس في دول مجلس التعاون فحسب بل في الكثير من دول ومناطق العالم، وذلك على ضوء تداعيات وإرهاصات جائحة كورونا التي كشفت عن بشاعة وقسوة وخطورة هذه الظاهرة.
في البحرين وبقية دول مجلس التعاون فإن كل المسؤولين المعنيين حاولوا وسعوا في مراحل مختلفة وبوسائل متعددة إلى حل أو حلحلة هذه المشكلة والتصدي لها، فوجدوا أن كل محاولاتهم صارت تشبه محاولات الغرف لتجفيف بئر ارتوازي يتفجر منه الماء تلقائياً وذلك من خلال تسرب مياه الأمطار إلى باطن الأرض عبر الفجوات الأرضية، فيصبح تجفيف ذلك البئر أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا.
وحتى محاولات التوصل إلى الأرقام الصحيحة والدقيقة لحجم هذه العمالة كانت وما تزال غير ممكنة، وظلت الإحصاءات تقديرية في أحسن الأحوال، كما أن هذه الأرقام صارت تتأرجح وتتحرك مثل حركة المد والجزر بين 30 و50 ألفًا في البحرين بنهاية القرن الماضي، وبلغت تقديرات وزارة العمل في العام 2017 قبل تطبيق النظام 100 ألف، ويقدر عددهم اليوم بأكثر من 60 ألفًا بعد أن تم تعديل أوضاع أكثر من 27 ألفًا منهم.
وأمام هذه المعضلة، وبسبب تذمرهم واستيائهم منها، فقد ظن البعض من ذوي النوايا الحسنة وقالوا إن وراء تفاقم هذا الوضع أناسا "متنفذين"، إلا أنني لا أعتقد أن هذا الاستنتاج موفقًا أو صحيحاً أو دقيقا؛ فعملية الاتجار بالبشر والتكسب من عرق وجهد العمال البائسين لا تحتاج إلى وجاهة أو إلى أصحاب نفوذ؛ ولكنها تحتاج إلى نصابين ومحتالين وعديمي الضمائر ومن هم على استعداد لارتكاب مثل هذه الجرائم ومخالفة القانون والالتفاف عليه والتسلل أو النفاذ عبر ثغراته وإساءة استخدام أدواته.
فالبئر الارتوازي للعمالة السائبة كان يمتلئ من خلال عدد من سماسرة وتجار الإقامات أو تجار الرقيق الذين، تحت مظلة "نظام الكفالة"، يقومون بإساءة استغلال القنوات القانونية باستصدار سجلات تجارية وهمية بأسمائهم أو بأسماء غيرهم، ثم يؤسسون فروعًا لكل سجل منها، وكل سجل من تلك السجلات وفروعها يُؤهلهم للحصول على تصاريح لاستقدام عمالة أجنبية يُحدِد عددها نوع النشاط الذي يدعون أنهم سيزاولونه، ومن هنا يبدأ سلم التضليل والالتفاف والتحايل على القانون؛ الذي يحدث أولا في وزارة التجارة، ثم ينتقل إلى وزارة العمل، أو الآن إلى هيئة تنظيم سوق العمل لطلب الحد الأقصى المسموح به لكل سجل ولكل فرع، ثم بعدها يأتي الدور على إدارة الهجرة والجوازات التي تصدر تصاريح القدوم والإقامة، وبعد أن تكتمل الحلقة تصل الضحية للبلاد محملة بالآمال والأحلام ومثقلة بالديون والمبالغ التي دفعتها مُقدمًا لكفيلها وسماسرته للحصول على هذه الرخص، فيقوم الكفيل بإطلاقها في السوق فور وصولها، ويظل يستلم منها إتاوات ورسومًا شهرية منهكة، وهذا الأسلوب هو الأسلوب ذاته المتبع في كل دول المجلس، وفي الكثير من الأحيان تتحلل هذه الضحية تدريجيًا من قبضة كفيلها تاجر العرق، وتذوب في مجموعة العمالة غير القانونية التي انتهت صلاحيات رخص عملها وإقامتها، إن هذه الفئة من العمالة السائبة أصبحت تشكل 15% فقط من عددها الكلي، أما نسبة الـ 85% الباقية منها فإنها تتراكم من خلال قنوات أو مصادر أخرى أهمها الشركات التي تحصل على أعمال أو مشاريع وتحتاج إلى جلب عمالة أجنبية لتنفيذها، وبعد انتهاء المشروع الذي في يدها، أو في حالة عدم حصولها على مشروع آخر فإنها في أحيان كثيرة تقوم بالتخلص من هذه العمالة بإطلاقها في السوق إما لعجزها عن توفير تكاليف إعادتها إلى أوطانها، أو للتهرب من ذلك دون تجديد تصاريح عملها وإقامتها، يضاف إلى ذلك حالات إغلاق أو إفلاس العديد من الشركات والمؤسسات التي توقف نشاطها وتقذف بعمالها في السوق، إلى جانب هروب بعض العمال من أعمالهم أو مواقعهم القانونية لأي سبب من الأسباب والانضمام إلى السوق غير القانونية دون موافقة أو ضلوع صاحب العمل الكفيل في مثل هذه الحالات.
كل ذلك بسبب ضعف وصغر الأجهزة الرقابية المعنية في كل جهة وانعدام التنسيق فيما بينها.
ورغم أنَّ العامل في كل هذه الحالات هو الضحية وليس المجرم الحقيقي إلا أنَّه في حالة ضبطه يعتبر أمام القانون مخالفًا له، وتتم معاقبته وتسفيره، وتتم محاسبة الكفيل إن كان ما يزال باقيًا، أو تم تحديده والعثور عليه.
ومع كل الجهود والمحاولات فقد بقيت العجلة على دورانها، وظلت عملية تغذية البئر وغرف مياهه مستمرة، إلى أن أصبحت العمالة السائبة نمطًا وعنصرا من عناصر الحركة الاقتصادية، واكتسبت صفة "العمالة الهامشية"، وهي حالة ليست شاذة أو غريبة أو نادرة، بل هي معروفة ومقبولة في مختلف اقتصادات العالم بخصائص مختلفة، ففي دول مجلس التعاون فإنَّ العمالة الهامشية تنحصر وتتكون من العمالة الوافدة بشكل أساسي، والتي أصبحت تتضخم خلال العقود الأربعة الماضية، ووجدت لها موطئ قدم، وطلبًا وقبولًا في سوق العمل، وأصبحت تلبي احتياجات المؤسسات الصغيرة وصغار المقاولين وسد احتياجات قطاعات متفرقة من السكان في أعمال التصليح والصيانة وغيرها من الخدمات.
لقد أصبح نظام "الفيزا المرنة" منذ تدشينه في البحرين في العام 2017 يتعرض إلى حَملة أو جُملة من الاعتراضات والانتقادات، وأصبح يشكل مصدر أرق وقلق للكثيرين من المراقبين والمهتمين بسوق العمل، على أساس أن هذا البرنامج لم ينجح حتى الآن في إغلاق هذا الملف وحل المشكلة التي ما تزال قائمة؛ بل إنه رسخها وقننها وضاعف من حالة تشبع السوق من العمالة الوافدة والفائضة، ولم يتصد في الواقع للمنتهكين للقانون، بل إنه أقر وشرعن مخالفاتهم، وشجع المزيد من العمالة القانونية المنتظمة على الهروب والانتقال إلى العمالة السائبة، وقوى شوكة منافستها للعمالة الوطنية حيث أصبحت هذه المنافسة مشروعة الآن، ويضيف المنتقدون إن ما يؤكد خلل وعوار هذا النظام هو أن تطبيقه ظل إلى يومنا هذا محصورا في مملكة البحرين، ولم تحاول أي من دول مجلس التعاون الأخرى الأخذ به وتبنيه.
في المقابل فإنَّ المؤيدين لهذا النظام والمدافعين عنه يعتبرونه من أنجح المحاولات وأشجعها للتصدي لهذه المشكلة، ويجدون أنه ماضٍ بتأن وثبات في تحقيق أهدافه التي من بينها إيجاد آلية يمكن من خلالها رصد ومراقبة ومتابعة العمالة السائبة وتصحيح أوضاعها؛ حيث تم حتى الآن تسجيل وتصحيح أوضاع أكثر من ربعها، وتحميلها أعباء مالية لم تكن تتحملها من قبل مما سيؤدي إلى إضعاف ميزتها التنافسية في سوق العمل، بالإضافة إلى حرمان المتاجرين بالبشر من الموارد والأموال التي كانوا يجنونها، كما تم القضاء على نشاطهم وسحب البساط من تحت أقدامهم وتنظيف البلاد من أهم وجه من أوجه جريمة الاتجار بالبشر.
لا شك أن هذا النظام، قبل إقراره وتطبيقه بسنوات، كان قد أخضع للدراسة والتمحيص ضمن معطيات كانت سائدة وقتها، وفي أوضاع وظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة والتي تغيرت الآن، مما يستوجب مراجعته وتقييمه على ضوء ما تحقق من نتائج وإنجازات، ومن إخفاقات إن وجدت، وحيال ما واجهه من نقد واعتراض ومن إشادة وثناء، فالأنظمة والقوانين ليست نصوصًا منزلة مقدسة، منزهة من الخطأ والضلال، ولا تقبل التعديل والتطوير أو حتى الإلغاء.