ولكم في التقاعد حياة!

مدرين المكتومية

تَقْضِي سُنن الحياة دائمًا بالتغيير؛ إذ لا يستقر أمر على حاله ولو للحظة واحدة، فكلُّ ثانية تمر علينا يُولد فيها شخص، ويرحل عن دنيانا آخر، وكل يوم يمرُّ علينا يحصل شاب على وظيفته ويتقاعد موظف آخر بعد خدمة طويلة.. ومن هنا كان في التقاعد حياة.

الكثيرون يُناقشون منذ أسابيع قضية المتقاعدين، ومعظم الآراء اتَّجهت نحو تأييد قرارات إحالة قُدامى الموظفين للتقاعد، لكنهم في جَوْهر هذه النقاشات وجَّهوا سهامًا حادَّة لكل مُخلِص ووفي أفنى عمره لخدمة مؤسسته، ومن ثمَّ خدمة وطنه، لم يعلم المُؤيِّدون لقرارات الإحالة للتقاعد أنهم بذلك يُهِيلون التُّراب على خبرات وطنية قدَّمت الكثير لهذا الوطن، وفي الوقت نفسه يتسبَّبون بآلام نفسية لهؤلاء الذين قضوا سنوات عمرهم وتحمَّلوا أقسى الظروف والتحديات منذ أن كانت بدايات النهضة المباركة تسير بخُطى حثيثة نحو ما نحن عليه الآن من تطور وتقدم.

الغريب في الأمر، أنَّ المؤيدين لم يتطرَّقوا ولو للحظة واحدة إلى مسألة الاستفادة من هذه الخبرات، نعم نُؤيِّد أنَّ من أمضى في وظيفته أكثر من 30 عاما، عليه أن يستريح استراحة تليق بما قدمه من خدمات للوطن، ولكن هذه الاستراحة أيضا يجب أن تتم الاستفادة منه خلالها؛ إذ لا يجب أن يكون التقاعد بمثابة إقصاء نهائي من الحياة؛ ففي الأخير يبقى المتقاعد أحد الخبرات الوطنية التي استفادتْ من الوطن، واستفادَ الوطن منها؛ لذلك أناشد كلَّ من تحدث في هذا الموضوع، لكي يطرح وجهة نظره بموضوعية وحيادية تجاه المتقاعد، أن ننظر لخبراتهم بعيدًا عن الوظيفة.

صحيح أنَّ خروجهم للتقاعد سيُتِيح المجال للعديد من الشباب الباحثين عن عمل للحصول على وظائف جديدة، ومن ثمَّ تدوير العمل الحكومي وتجديد الدماء وضخ دماء جديدة في الجهاز الإداري للدولة، والاستفادة من الكوادر الشبابية الجدية، والمدربة على أعلى مستوى، والمتخصصة في أحدث المجالات وهم كُثُر ولله الحمد في وطننا الغالي. لكنَّ الأهم من هذا كله أنْ لا نتخلى عن المتقاعدين؛ فهم من أفنوا عُمرهم في خدمة مسيرة النهضه المباركة، وهُم من تحملوا عناء العمل في ظروف صعبة قد تكون وبأقل الإمكانات التي نعيشها الآن من حيث جودة العمل المؤسسي وتقدُّم البنية الأساسية، وتطوُّر الخدمات المقدمة، هؤلاء من عملوا تحت ظروف صعبة.

لذلك؛ أقدم هنا مقترحًا للجهات المعنية -وعلى رأسها مجلس الوزراء الموقر- لكي تتم الاستفادة من خبرات هؤلاء المتقاعدين من خلال إنشاء مجموعات متخصصة في مختلف القطاعات، ومُساعدتهم في تقديم آرائهم ومقترحاتهم لتطوير العمل المؤسسي.

كما أنه من المجدي لو يتم إنشاء نقابة أو كيان نقابي لهؤلاء المتقاعدين، تحت مسمى "جمعية المتقاعدين العمانية"، لتكون مظلَّة لهم تساعدهم لقضاء أوقات فراغهم فيما يخدم هذا الوطن، وبهذه الأفكار والمقترحات يُمكننا الاستفادة من هؤلاء المتقاعدين، وأن نقول لهم شكرا في نهاية المطاف، ونردُّ لهم الجَمِيل بأسلوب يعكس تقدير كافة فئات المجتمع والحكومة لجهودهم خلال السنوات الماضية، فجميعنا سائرون في هذا المسار.

لا يُمكننا أن نتعامل مع ملف المتقاعدين على أنهم مجموعة من الأشخاص الذين يمثلون عبئًا اقتصاديًّا أو عبئًا على أي من مؤسسات الدولة، لا بل هم مجموعة من الخبراء والمتخصصين في مجالات عدة، يعلمُون جيدًا دواليب العمل الحكومي وتفاصيل الإجراءات، ولديهم من الخبرات ما يكفي لتقديم أفكار تساعد على تقدم وطننا الغالي.

في كثير من دول العالم، المتقاعدون هم مجموعة من الخبرات التي يتم توظيفها في مجالس استشارية، أو فكرية، وحتى معاهد الأبحاث ومراكز الدراسات، وأخيرا.. المجال مفتوح أمام الجميع لكي يُدلي بدلوه في هذه القضية، لكن علينا أن نضع في عين الاعتبار عدم هَضْم حقوق الآخرين، أو الانتقاص مما قاموا به خدمة للوطن، أو تصويرهم على أنهم مشكلة اقتصادية أو استنزاف للموارد المالية، بل هم خِيْرة هذا الوطن وأحد روافد التنمية خلال عقود مضت.

الأكثر قراءة