عبيدلي العبيدلي
تناولنا في الحلقات السابقة، في نطاق تشخيص العلاقة بينن الإنسان والتكنولوجيا، المحطات الرئيسية في بناء تلك العلاقة، ومراحل تطورها؛ كي نصل اليوم إلى الجدل الذي باتت تُثيره مثل هذه العلاقة في صفوف الإنسان؛ حيث وجدناه مُنقَسِما إلى ثلاث فئات؛ الأولى: تلك التي لا ترى في التكنولوجيا سوى الجانب المضيء منها، فنجدها مُندفعة في إبراز تلك المنافع التي حصدها الإنسان بفضل التطور الذي شهدته التكنولوجيا على مر العصور.
وفي سياق اندفاعها هذا تتغاضى، هذه الفئة، عن كل ما تشير له الفئة الأخرى التي ترى في التكنولوجيا مضارَّ كثيرة تفوق في تأثيراتها تلك الإيجابيات التي تتحدث عنها الفئة الأولى. ويصل الأمر عند بعض من ينتمون إلى هذه الفئة إلى دعوة متصاعدة تحث على مقاطعة الإنسان للتكنولوجيا، وترغِّبه في العودة إلى الماضي، كما تروج هذه الفئة، كي يتسن له أن ينعم بحياة مستقرة، ويتمتع بعلاقته البسيطة التي نسجها ليس مع الإنسان نفسه، بل حتى مع الطبيعة المحيطة به.
فئة واسعة من المجتمعات الإنسانية تقف في الوسط بين تلكا الفئتين؛ فهي لا تنكر حسنات التكنولوجيا ودورها في تطور المجتمعات البشرية ورقيها، لكنها في الوقت ذاته لا تغض طرفها عن تلك المساوئ التي ينبغي عدم التهاون في تداعياتها، ولا طمس معالم السلبيات التي تجلبها معها.
ولرُبما تكون هذه الفئة هي الأقرب للموقف الصواب، وبالتالي فهي أكثر قدرة، ومن ثم جدوى، عندما معالجة تطور علاقة الإنسان مع التكنولوجيا والمستقبل الذي نريده لها.
أول مظهر من مظاهر العلاقة الثنائية التي نتحدث عنها هي ذات طابع شمولي، يمس جغرافية الوجود الإنساني، دون تمييز للمكان. والمقصود هنا علاقة التكنولوجيا بالبيئة المحيطة بالإنسان.
فمِن جانب لا شك أنَّ التطور التكنولوجي ولَّد علاقة إيجابية، لا يستطيع أحد أن يُنكرها، في قدرة الإنسان على تسخير تلك البيئة للارتقاء بالعلاقة التي تربطه بها. فوجدنا التطور الذي عرفته الآلات الزراعية -على سبيل المثال لا الحصر- تساعد الإنسان على تحسين ظروف التربة، والتغلب على الكوارث التي كانت تدمرها، فيذهب جهد الإنسان الذي بذله في استصلاحها وتهيئتها لجني محصول أفضل على المستوى النوعي، وأكبر على الصعيد الكمي، هباء منثورا.
لكن ذلك الإنجاز ولَّد -في المقابل- تلك الغازات الضارة، بل وربما القاتلة، التي تنفثها تلك الآلات، التي دمرت التوازن الطبيعي الذي كانت تنعم به البيئة ومعها الإنسان، فباتت صحة الإنسان مهددة؛ مما ينذر بتشويه تطوره الجسماني، بل وتنبه إلى احتمالات انقراضه.
ومن العام الشامل، ننتقل إلى الخاص المحدد في حقل معين، أو قطاع اجتماعي معلوم، ويمكننا ذلك من رصد الأنشطة الإنسانية، التي تزاوج فيها النشاط البشري مع التطور التكنولوجي، وتولد عن ذلك ظواهر اجتماعية، بل وحتى سلوكية جمعت وجهي العلاقة التي نتحدث عنهما بشقيها: الإيجابي والسلبي.
الظاهرة الأولى هي العمل؛ فمما لا شك فيه أن التطور التكنولوجي قد اختصر الكثير من أشكال الإنتاج في دورة عمل معينة الأمر الذي من شأنه خفض من النفقات، واختصار الوقت، لكنه في المقابل أدى لغياب بعض الوظائف، ومن ثم زاد من نسبة البطالة، فوجدنا في ذلك التقدم تلك الثنائية التي نتحدث عنها بوجهيها الإيجابي والسلبي.
ولتقريب الصورة من ذهن القارئ، لنأخذ صناع الطباعة، فثورة الحاسوب، قضت على الكثير من مراحل دورات صناعة الكتاب أو المطبوعات الأخرى؛ ومن بينها المجلات والصحف. محصلة ذلك بدء انقراض الشكل الورقي التقليدي لكليهما، والاستعاضة عنه بالنسخ الإلكترونية. لم يؤد ذلك إلى فقد الإنسان ذي العلاقة بوظيفته، بل أدى إلى غياب مؤسسات عريقة من على سطح الأرض. لم يعد وعاء المعلومات التقليدي من كتاب أو دورية يحظى بالمكانة التي كان يتمتع بها لدى المستفيد منه، بعد أن حل مكانه الوعاء الإلكتروني.
ولو تمعنا أكثر في الانعكاسات الاجتماعية التي ولدتها ثورة الطباعة، سوف نكتشف الكثير من التحولات ذات الطبيعة الثنائية بشقيها السلبي والإيجابي، بما فيها أيضا السلوك الاجتماعي لدى الإنسان ذاته.
الظَّاهرة الثانية هي التواصل الاجتماعي؛ سواء في شِقِّه الإنتاجي في دوائر العمل، أو مَظْهَره الاجتماعي في بناء العلاقات الإنسانية. لم يعد للبعد الجغرافي هذه الأهمية التي كان يحظى بها في نسج العلاقات الإنسانية في المجالين: المهني والاجتماعي. فبدا التواصل عن بُعد، عبر الهاتف ووسائل أخرى، يتسلل إلى المؤسسات والمنازل بسرعة فاقت كل التصورات. ولربما جاءت جائحة كورونا كي تفرض على الإنسان أداءه لعمله عن بُعد، وقيامه بواجباته الاجتماعية عن بُعد أيضا. الجدل لم ولن يتوقف عند محاسن التكنولوجيا في كل منهما، ومساوئها عند القائم بأي منهما أيضا. فبينما يتحدث البعض عن سرعة الإنجاز وكفاءته، يشكو البعض من فقدان "اللمسة" الإنسانية في كليهما، خاصة في الجانب الاجتماعي.
ولا يُمكن لأي طارق لباب الانسان والتكنولوجيا، أن يتجاوز العلاقة بينهما في مجال الطبابة؛ حيث بِتنَا نرى -وبعد حلول تقنية الجيل الخامس (5G) في قطاع الاتصالات- الإنسان الآلي أو الروبوتات تحل في بعض المجالات، بما فيها التشخيص والجراحة، مكان الإنسان. وأصبحنا رُويدا رُويدا نقبل بما يقوله الروبوت، دون الحاجة للعودة إلى طبيب إنسان.
من جانب، قلَّص ذلك من مساحة "الاحتكار" باهظ التكلفة الذي كان "ينعم" به الأطباء الاستشاريون من جانب، كما قلَّص أيضا من التقدم الذي كانت تحتكره بعض البلدان في ميدان الطبابة. لكنه في الوقت ذاته، في الوقت الحاضر في أقل تقدير، "قولب" التشخيص، وقلص من هامش الاستثناءات التي قد يعاني منها مريض دون آخر، الأمر الذي قد يؤثر في دقة التشخيص.
هذا في مُجمَلِه سيؤثر، وبدرجة كبيرة، على طرفي العلاقة في مجال الطب: المريض والطبيب. ويصعُب في الوقت الحاضر التكهُّن بما ستؤول إليه هذه العلاقة بوجهيها السلبي والإيجابي.
قائمة أوجه العلاقة طويلة، ومن الأفضل عدم "قَمْع" القارئ وحرمانه من التحليق لبُرهَة، كي يقدح زِنَاد فكره ويستحضر بعضًا من بنود هذه القائمة. نُذكِّر فقط بقطاع التعليم، ونلفت نظر القارئ كي يحاول أن يرى مُستقبل الفصول الدراسية، التي ربما يقضي عليها التعليم عن بُعد، وكذلك حال المدرس الإنسان.
على نحو مُشابِه، وفي نطاق الحديث عن دور التكنولوجيا في "قولبة" السلوك الإنساني، كي تختفي بعض السلوكيات ويحل محلها آخر، أو ينمو البعض منها بشكل سلبي. هناك السلوك الاستهلاكي المتعاظم، الذي لم يعد مقتصرا على الطبقات العليا، بل بات متفشيا، بفعل انتشار التكنولوجيا، وانخفاض سعر الأجهزة التي تولدها.
الخلاصة التي لا يُمكن رفضها، أن التكنولوجيا سوف تواصل تطورها، وليس أمام الإنسان من خيار سوى التعامل معها، والاستجابة لها، لكن بعد تطويعها كي لا يفقد الإنسان إنسانيته، من جانب، دون أن يفرط في جوانب الاستفادة من تلك التكنولوجيا وتسخيرها من أجل إنسان أفضل ينعم بالعيش في مجتمع أرقى وأكثر إنسانية.