نظرية الريادة والاستجابة
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *
* كاتب قطري
ثالث نظريَّات المشروع الفكري لإبراهيم البليهي "الريادة والاستجابة".. وهي نظرية تشكل أساسَ تقدم المجتمعات المستجيبة لروادها، فما هي هذه النظرية؟ وكيف تُسهم في تطوير المجتمعات؟
المجتمعات التقليدية محكُومة بقانون القصور الذاتي (العطالة)، تظنُّ أنها تتحرك إلى الأمام بانتشار خطط التعليم والتنمية وتعدُّدها وكثرة المتعلمين، لكنَّها في الحقيقة تدور في حركة دائرية في مكانها وتنحدر تلقائيًّا. الانحدار سهل لا يتطلب جهداً، بينما الصعود يتطلب جهداً استثنائيًّا. والتخلف لا ينتج إلا مزيداً من التخلف والقيود والكوابح النفسية والذهنية والوجدانية.
كيف تتحرر المجتمعات من عطالتها؟
أثبتتْ شَوَاهد التاريخ والتنمية المثمرة أنَّ المجتمعات المنغلقة على ثقافاتها الموروثة لا تستطيع تجاوز أوضاعها المتردية، ولا الإفلات من قبضة المألوف واتباع سنة الأولين، والتحرُّر من قانون القصور الذاتي، ولا التعايش الفاعل والبناء مع العالم، إلا بتغيير ذاتها. لكن التغيير يتطلب أن تنمو للمجتمع قَدَمان ينهض عليهما ويتحرك بهما نحو الازدهار؛ أولا: قدم الريادة الفكرية التنويرية الخارقة. ثانيا: قدم الاستجابة الإيجابية المجتمعية العامة الكافية. وما لم تتعاون القدمان فلن يتحقَّق الازدهار، فآلاف المبدعين الذين يتمُّ جلبهم إلى المجتمعات المتخلفة لن يكون لهم أي تأثير إيجابي، بل يسهمون في توطيد التخلف!
فمن هم الرواد؟ ومن هم المبدعون؟
الرُّواد هم من أحدثوا قطيعة مع واقع مجتمعاتهم وثقافتها، وأسَّسوا اتجاهات مغايرة في مسيرة الحضارة، وأوجدوا تغيُّرات نوعية على مستوى أوطانهم والعالم. أما المبدعون فهم، لا يُحدِثون قطيعة مع الواقع، بل يُضِيفون إليه ويوسِّعون نطاقه؛ فكلُّ ريادي مُبدع، وليس كل مُبدع رياديًّا، وقد تطغى شُهرة المبدعين على الرواد. شكسبير رائد ومبدع في مجال المسرح، لكن إبسن وبرناردشو وبريخت مُبدعون وليسوا روَّاداً. الرواد استثنائيون نادرون، والمبدعون أضعافهم، لكنهم بالقياس بالجموع البشرية أقلية صغيرة. وما حقَّقت الإنسانية إنجازاتها الحضارية المذهلة إلا بفضل عقول ريادية نادرة وخارقة.
لا يُولد الرواد مُختلفين عن غيرهم، فليس شرطاً أنْ يُولد الرائد بذكاء خارق، بل قد يكون عاديَّ الذكاء، لكنه يتعرَّض في مرحلة من حياته لظروف تَفرِض عليه تساؤلات حادة مُزلزِلة تكسر فيه تلقائية التنشئة، وتقذف به في مسارات الريادة المضادة للسائد.
الرَّائد فرد استيقظَ من التنويم الاجتماعي السائد في مجتمعه، ليَعِي الطبيعة البشرية، وطبيعة الأوضاع الإنسانية، والتحوُّلات الحضارية، والتباينات الثقافية، وأسباب العطالة الفكرية، فاكتسب رؤية خارقة للسائد، وانفصل بفكره ورؤاه واهتماماته واتجاهه عن عموم الناس.
تفاوت المجتمعات في الاستجابة لروادها:
ظُهُور الرُّواد يحصل في كل المجتمعات، لكنها تتفاوت في الاستجابة إيجاباً أو سلباً، وهذا ما يصنع التفاوت الحضاري بينها؛ فالمجتمعات التي تستجيب لروادها تتقدم، والمجتمعات التي ترفض وتستمر في الرفض تتخلف.
لو كانتْ المُجتمعات تستجيب لروادها بسهولة لما بقيت الحضارة الإنسانية عشرات القرون تُعيد إنتاج نفسها وتدور في نفس مساراتها الموروثة. تاريخ الحضارات يكشف بوضوح أنَّ الثقافات التقليدية تقف ضد الريادة الفكرية، وتحاربها بمنتهى الشراسة؛ فالاعتراف بالريادة يعني استعداد أهل السلطة والنفوذ للتخلي عن بعض مَكاسبهم، كما يعنِي الاعتراف بقصور الراهن وحاجته للتغيير والتطوير، وهذا يتعارض مع مصالح المنتفعين، كما يعني الاعتراف بتميز الرائد واختلافه الإيجابي، والناس بطبيعتهم لا يعترفون لأحد بمزية، إلا من وجدوه مهيمناً في الواقع المعاش، فهم معتادون على التراتب الاجتماعي.
مواقف المجتمعات التقليدية من الرواد على ثلاثة:
- الأول: عامة الناس المُتبرمجون، عقولاً وعواطف وأخلاقاً، فهم أسرى مرجعياتهم التقليدية، يستجيبون لتوجيهاتها بمنتهى الولاء والإذعان والانقياد العاطفي التقديسي، فيواجهون الرائد بالتسفيه والرفض الجائر، فمن طبيعة البشر أنهم أعداء ما يجهلون.
- الثاني: القلة المستنيرة المؤيدة، لكنها مُتفرجة سلبية، لا تعمل شيئاً لمؤازرة الرائد، تجنباً للصدام مع المخالفين، بل إنَّ بعض التنويريين يقفون ضد بعضهم بعضا.
- الثالث: المعارضون الغاضبون: القادرون على تأليب المجتمع على الرائد؛ كونهم يملكون قوة داخلية متفجرة بخلاف الموافقين المتفرجين، لأن العواطف السلبية دائما أقوى من العواطف الإيجابية، وهذا يفسر لماذا تقف مجتمعاتنا مع التوجهات التقليدية والمتشددة!