السياسة العمانية.. كلمةٌ طيبة كشجرة طيبة

المكرم/ أحمد بن عبدالله الحسني

أن تكون في مستوى السياسة العُمانية عليك أن تكون صبوراً جداً وذا نفس طويل وتتعلم وتتحمل كبح هرمون الانفعال لديك وألا ينزغنك من الشيطان نزغ وأن تدفع دوماً بالتي هي أحسن "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنَّه ولي حميم".. غير أنَّ هذه المواصفات والخصال" ما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم".

كثيرةٌ هي السياسات التي لا تعيش إلا في الدهاليز والأنفاق المُظلمة فيكون ثمرها معتماً ملتوياً وشراً خبيثاً وقليلةٌ تلك التي تشع بأنوارها فتضيء الطريق للآخرين لمواصلة رحلة السير بأمان وسلام، فلا الظلام الغليظ يحجبها ولا النور المشع يفسدها، ومن "لم يجعل الله له نوراً فما له من نور".

تدافع الدول بعضها البعض معمل يومي في هذه الحياة، لكن أن يُصبح توسيع الاختلافات وتغذية التدخلات هو القاعدة، والتقارب والتفاهم هو الاستثناء فهذا خلل استراتيجي تسلل إلى المنطقة فيقوض أسس العلاقات برمتها ويعرضها لمخاطر الهدم الكلي لما تمَّ بنيانه والسهر عليه.

فيا تُرى أية ثقة من المُمكن أن تُبنى وتنمو وتتوطد في ظل ما يُشاهد ويُسمع ويحصل في المنطقة من ممارسات تصل إلى حد الغرابة ولو خُصص لها مرصد علني حيادي ومستقل يُراقب وينشر كشفاً شهرياً حول من يتعدى على من ومن يُحرض ضد من ومن يتدخل ليلاً نهاراً في شؤون من لذُهلت المنطقة وشعوبها البريئة المحبة للخير مما يجري وربما معظمهم في قرارة أنفسهم غير راضين ولا متفقين مع هذه التوجهات التي زادت عن حدها ولا تنتهي ولأدركت بشكل لا لبس ولا مراء فيه من يفتعلها ويتسبب فيها.

لطالما كان إخلاص النية وتدعيم الألفة بين الدول والشعوب وبناء الخير المشترك ومقت التحريض والافتراء ونبذ التوتر وتقوية مغناطيس الحوار والتفاهم استثماراً عُمانياً بامتياز لا يتغير ولا يتبدل كون مواده الخام التي عجنته عراقة الحضارة وأمانة التاريخ على امتداد الخليقة طبيعية غير مصنعة ولا هجينة أو مستوردة ونبعت من بيئتها وتربتها النظيفة فتصالحت معها بصدق قولاً وعملاً وتعاقبوا على تأسيسها وحملها كسياسة راسخة رجال عظماء مؤمنين "صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".

هذه هي السياسة العمانية أصلها ثابت راسخ في الأرض لكن فرعها هناك في السماء حيث تستمد النور والحكمة فيكون الثمر طيباً مباركاً يعم خيره الجميع.

لا تتوقع من عُمان أن تُجاملك على حساب الحق والمنطق، وكما قال جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطابه السامي لأبناء عمان الأوفياء " لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرف كياناً حضارياً فاعلاً ومؤثراً في نماء المنطقة وازدهارها واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها وتحرص على أن تظل رسالة عُمان للسلام تجوب العالم حاملةً إرثاً عظيماً وغايات سامية تبني ولا تهدم، تقرب ولا تبعد وهذا ما سنحرص على استمراره معكم وبكم لنؤدي جميعاً بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية ".. هكذا بحق فهي الأمانة والمسؤولية التاريخية وأخلاقيات القيادة الحضارية لعُمان جيلاً بعد جيل.

يُعلمنا التاريخ أنَّ من يختار طريق التناحر والخصام وأنانية وأحادية المصلحة واشتهاء التصادم مع الآخرين في كل صغيرة وكبيرة وتقطيع أوصال الشراكة الطيبة الحسنة مصيره قارعة الطريق وحيداً منبوذاً وطريقه الذي اختاره لا يُمكن أن يدوم وينتهي به المطاف إلى مثلث مغلق "فما استطاعوا مُضياً ولا يرجعون" ويتوقف بصاحبه إلى مصير وسمعة إقليمية وعالمية غير حسنة.

لذلك.. في بعض المواقف يتوجب علينا قلب الصفحة لنبدأ من جديد مرحلة أخرى من الصفاء والمحبة والحوار والجلوس لحلحلة المشكلات بالكلمة الطيبة والمنطق السليم فلا مشاكل مهما عظُمت من دون حل، فهي الفطرة الآدمية التي فطر الله النَّاس عليها وما عداها فهو من عمل غير بني الإنسان، إنه من عمل الشيطان. ومن يقلب الصفحة فهو صانع وبطل التغيير الحقيقي الذي سيتذكره العالم ويخلده التاريخ. فالعاقل من يُراجع نفسه ويصحح مساره ونهجه، والأوطان في حد ذاتها إنما هي وسيلة ونعمة كريمة وعزيزة من نعم الله سبحانه وتعالى على العباد فلا يأخذ الإنسان الغرور والإفراط في الحماس بعيداً جداً فالحياة أكبر وأوسع من أُطر الدول والحدود الجغرافية والمصالح الفردية " لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ".

شكراً بكثير من الامتنان لكل صاحب قلم وفكر ولكل موظف ومسؤول يُقرب بين الحكومات والشعوب ويترفع ويسمو عن الضغائن والتفاهات ويُذيب العداوات وتبت يدا ولسان كل من يتنفس الفتنة والتعصب زفيراً وشهيقا.

وكما قال عنترة ابن شداد العبسي "لا يحمل الحقد من تعلو به الرتبُ.. ولا ينال العلا من طبعه الغضبُ"، وقول الحموي في أرجوزته "لكل شيء مدةٌ وتنقضي.. ما غلب الأيام إلا من رضي". وختاماً "وربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا" وكذلك "ولتُسئلن عما كنتم تعملون".

تعليق عبر الفيس بوك