باحث أمريكي يستعرض دور بكين وواشنطن في إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي

"الانشقاق".. رصد لتداعيات "الصدمة الصينية" المؤلمة على الصناعة الأمريكية

ترجمة- رنا عبدالحكيم

يغوص الباحث الأمريكي بول بولستين في كتابه "Schism" أو "الانشقاق" في الأسباب التي دفعت منظمة التجارة العالمية للفشل في التكيف مع بروز قوة الصين "كمصنِّع للعالم"، حيث يتناسب نظامها الاقتصادي بشكل ملفت للانتباه مع الإطار الحالي المتعدد الأطراف، كما يُسلط الضوء على التوترات التجارية القائمة، في ظل "تكتيكات التنمر" التي يُمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين باعتبارها وسيلة لإدارة آلية التجارة العالمية.

ويبدأ الكتاب برصد المسيرة الطويلة التي تطلبها انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، والتي تمَّ إنجازها أخيرًا في عام 2001 بعد سنوات من مفاوضات شاقة مع الولايات المتحدة، والتي كانت بمثابة حارس دخول منظمة التجارة العالمية. وقدمت الصين، بتوجيه من رئيس الوزراء الإصلاحي- آنذاك- تشو رونغجي، العديد من التنازلات للتكيف مع إطار منظمة التجارة العالمية ولتهدئة مخاوف أمريكا من أن حجم الصين، وصنع القرار المنسق، والشركات المملوكة للدولة، ونظام الإعانات، عوامل ستمكنها من المنافسة بشكل فعَّال للغاية.

ووفقاً لاستعراض للكتاب نشره معهد لوى، وهو مركز أبحاث مستقل وغير حزبي مقره في سيدني في أستراليا، لا يشك بلوستين في أنه كان من المناسب الاعتراف بالصين، قائلا: "ببساطة ما هو البديل الواقعي؟"؛ حيث إن الولايات المتحدة تفاوضت بقوة وفعالية من أجل انضمام الصين للمنظمة. ويستشهد الكاتب بالتكتيكات الصارمة المستخدمة وقت المفاوضات، بما في ذلك جميع الحيل المعتادة التي يزعم ترامب الآن أنها "خبراته الفريدة".

فبعد عام 2001، لم تسر الأمور كما توقعت الولايات المتحدة، وتوقع البعض (ولكن ليس على الإطلاق) أن يكون الانضمام محفزًا لتحويل الاقتصاد الصيني نحو النموذج الأمريكي في كل من الاقتصاد والسياسة. والأهم من ذلك، توقع قلة أن تحقق الصين نجاحاً مذهلاً في تصدير المصنوعات. لكن إذا نظرنا إلى الوراء قليلاً، فإنَّ مراقبون يرون أن هذا النجاح يُعزى إلى التلاعب في العملة الصينية، وسرقة الملكية الفكرية، والتحويل القسري للملكية الفكرية، ونظام الإعانات، وتدخل الدولة، وممارسات العمل غير العادلة، باختصار كل شيء باستثناء حقيقة أن شركة تصنيع كبيرة منخفضة التكلفة دخلت السوق بأدوات ديناميكية منظمة.

وكانت "الصدمة الصينية" مؤلمة للصناعة الأمريكية؛ إذ أظهر التحليل المبكر أن فقدان وظائف التصنيع كان نتيجة للتكنولوجيا أكثر من الواردات الصينية. لكن مع مرور الوقت، تمَّ الاعتراف بأن بعض المناطق الجغرافية لم تتمكن من التكيف مع الأوضاع. وفي خضم هذا الجدل، لم يتم توظيف الكثير من الفرص التي فتحتها التجارة الصينية، بما في ذلك الاستثمار الخارجي. وأدى ارتفاع إنتاج سلاسل التوريد إلى الاستغناء عن بعض الوظائف الأمريكية، لكنه سمح للآخرين بالتنافس في الأسواق العالمية من خلال تغيير مكونات الإنتاج المنخفض المهارة في الخارج، وترك القيمة المضافة ذات المهارات العالية (والمربحة) التي يجب القيام بها في أمريكا.

ومع ذلك، ليس ثمَّة من شك في أنَّ الصدمة الصينية كانت مؤلمة وحاسمة سياسياً عند انتخاب ترامب لأوَّل مرة في عام 2016. وكان التحول مؤلمًا أيضًا للصين، لكنه كان عنصرًا حاسمًا في التحول الذي أخرج 800 مليون شخص من الفقر.

وشهدت فترة ما بعد عام 2001 تصاعد العداء الأمريكي بمرور الوقت. ففي عهد الرئيس جورج دبليو بوش، كان لا يزال هناك أمل في أنَّ الصين قد تتغير "بالنسبة للعقلية الأمريكية". وزاد باراك أوباما الضغط على الصين، باستخدام "الإجراءات الوقائية"، والإجراءات القوية لمكافحة الإغراق في منظمة التجارة العالمية، والإنهاء الفعَّال لـ"التلاعب بالعملة" من خلال خفض بكين لقيمة الرنمينبي. وعدل الرئيس شي جين بينج في عام 2012 اتجاه التنمية الاقتصادية في الصين، وعكس تحول تشو نحو الأسواق الخاصة.

ويفند الكاتب نقاط الخلاف بين الصين وأمريكا، وقال إن دونالد ترامب، بعدما جاء إلى سدة الحكم أخذ يُؤكد على عدم التوازن الثنائي فضلاً عن طرح نظرة مبالغ فيها لقدرته على المساومة. وكانت بعض شكاوى أمريكا غير ذات صلة؛ على سبيل المثال: اختلال التوازن الثنائي، في حين كانت الشكاوى الأخرى مرتبطة بشكل كبير بسيادة الصين ألا وهي رأسمالية الدولة. وكانت القضايا الأخرى مثل الإعانات ومساعدة الدولة أكثر انتشارًا في الصين، على الرغم من أمريكا بالكاد تخلو من الخطيئة في هذا الصدد. أما بالنسبة للملكية الفكرية، فقد تمَّ تحريف النظام بسبب الانتهاكات.

ويرفض بلوستين أهمية الشراكة عبر المحيط الهادئ، حيث كان رحيل أمريكا خسارة طفيفة لقضية التجارة العالمية. ويؤكد أنه لم يكن يقصد على الإطلاق احتواء الصين.

ويحتوي الكتاب على مادة تحليلية قوية واستنتاجات سليمة. وحتى في هذه المرحلة المتأخرة، يجادل بلوستين بأنه يجب على ترامب العمل مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين لاستعادة دور منظمة التجارة العالمية، وهي المحور الحيوي في الإطار المتعدد الأطراف الذي لا غنى عنه.

ويرى بلوستين أننا قد نفهم أكثر وجهات النظر المتضاربة (حتى بين الأمريكيين، ناهيك عن الأمريكيين والصينيين) إذا حددنا 3 عقليات مختلفة بين اللاعبين الرئيسيين.

أولاً: يرى الكُتاب الاقتصاديون التجارة من منظور "الأبيض والأسود"؛ حيث تزيد التجارة الحرة من رفاهية كل دولة، حتى لو كانت تتطلب بعض إعادة التوزيع الداخلي لتحقيق العدالة، في حين أن الرسوم الجمركية تضر بالجميع، بما في ذلك الدولة التي تفرضها. وتسمح الميزة النسبية للبلدان بالاستفادة من مزاياها الجوهرية المشروعة، مثل انخفاض تكاليف العمالة. فيما يفيد الدعم المتلقين فقط، بينما يضر بالداعم نفسه. واستخدمت معظم الاقتصادات النامية واليابان أسعار صرف تنافسية خلال مرحلة اللحاق بالركب. ولذا فإنَّ نظام التداول في السوق الحرة منظم ذاتيًا إلى حد كبير، ويتطلب القليل جدًا من التدخل أو التنظيم لتحقيق النتائج المُثلى.

ثانيا: البعض يقبل بفوائد التجارة الدولية، لكنهم يعتقدون أيضًا أن أيِّ دولة يمكن أن تحصل على حصة أكبر من هذه الفوائد من خلال المساومة الحاسمة. وقد تكون التعريفات الجمركية تكتيكًا صالحًا لعملية المساومة هذه. وساهمت بيروقراطية منظمة التجارة العالمية و"الجولات التجارية" الملتوية بعد الحرب، في هذا الأمر.

ثالثا: هناك من يُحدد المخاوف الأمنية المهيمنة وهم على استعداد لتقييد التجارة- وربما حتى السعي للفصل- من أجل تقليل التهديد الأمني ​​القادم من الصين.

ويمكن فهم تلك الحجج والدوافع والإجراءات المتنوعة والمتناقضة بشكل أفضل في هذه المصطلحات، إذ لا توجد قواعد متسقة يمكن أن تلبي هذه العقليات المُتباينة. وتعاني منظمة التجارة العالمية من عيوب خطيرة، وقليل من الأعضاء يتصرفون كما ينبغي. لكن على الرغم من عيوبها، كان هذا النهج متعدد الأطراف عنصرًا رئيسيًا في الزيادة الهائلة في مستويات المعيشة العالمية منذ الحرب العالمية الثانية.

تعليق عبر الفيس بوك