ذرائع

لا تشدوا الأحزمة... ولا تفكوها

 

غسان الشهابي

قامت الكثير من الدول في الآونة الأخيرة بزيادة طاقتها الاستيعابية من الأسرّة والمنشآت الطبية لتستطيع الإحاطة بالمصابين بفيروس كورونا في تمدده، مع التطمينات بأنه فقد قوته الدافعة، وأنه في سبيله للاضمحلال والزوال، وأن الصيف كفيل به، مع الكثير أيضاً من المزايدات عن اكتشاف حلول قريبة له على هيئة لقاحات، ومع ذلك، قامت دول متعددة بزيادة طاقتها الاستيعابية، إما عن طريق المبادرة لتحويل منشآت قائمة إلى مراكز لاستقبال المصابين بهذا الفيروس، أو بالترخيص لمؤسسات في الطب الخاص للقيام بدور رديف مع التعاون في ما يسمى "بروتوكول" العلاج الخاص به.

لما قرأت هذه الأخبار، تذكرت تشبيهاً غاية في الذكاء من خبير في تخطيط المدن والهندسة المدنية، قال فيه: "إن توسعة الشوارع أشبه ما تكون بفك حزام المصاب بالتخمة"، أي أنها حل مؤقت مريح، يبعث على طمأنينة وقتية مُخادعة، ولكنها أبداً ليست حلاً لمشكلة الازدحام، كما لن يفعل فك الحزام للمتخم الذي أسرف في الأكل على المائدة، سوى أن يشعر براحة بعد أن تخلصت معدته من هذا الضغط.

ولكن ما أن يطمئن متخذو القرار بالتوسعة في الشوارع، أو بفك حزام المتخم، أو بزيادة الطاقة الاستيعابية، حتى يطالبوا بالمزيد من التوسعة، والمزيد من الفك، والمزيد أيضاً من الاستيعابية، وهذا النوع من السباقات خاسر جداً في واقعنا كما رأينا رأي العين الكثير من المشاريع التي ذهبت سدى، ولم يستفد منها إلا مقاولو الطرقات والتمديدات، وحتى لا نظلم أحداً فلن نقول إن بعض المستفيدين هم من متخذي قرار التوسعات في هذه الطرقات في الأساس.

ما تشير إليه الدراسات الحالية، والأوبئة والجوائح منذ "جنون البقر" على أقل تقدير، فإن أنواعاً مستجدة من الأمراض ستظهر تباعاً، بعضها قديم يتجدد، وبعضها مستجد كلياً، وحتى ما سبق وإن مرّ علينا، سيأتينا بأوجه جديدة، فهل سنقوم في كل مرة بالتمرين نفسه، والخطوات المتأزمة نفسها؟

لقد أبدت لنا هذه الأزمة العديد من الثقوب والخروق في منظوماتنا التعليمية الأساسية، وروح النقد، وبناء القدرات البشرية منذ الصفوف الأولى، وتنمية مهارات البحث في كل المجالات. كما كشفت لنا خطأ تضييق قناة المقبولين في المجالات الطبية حتى أسميت في بعض الدول بـ "كليات الصفوة"، وهي تنحدر هكذا: طب، هندسة، أي شيء آخر. بل الاعتماد على الاستعداد الشخصي، إن استطاع أن يتأقلم مع الطب فليكن وإلا سيخرجه نظام التدريس منه، وأعرف أصدقاء درسوا في غير دولنا العربية الطب وهم أبعد ما يكونون عن تلك الأرقام القريبة من الكمال في المعدلات، واليوم هم قيادات طبية محترمة في مجالاتها.

 والأمر أيضاً يتعلق بأطقم التمريض التي يعاني العالم أجمع النقص فيها، وفي الملمات ربما لا ترسل الدول المصدرة للممرضين إلينا أحداً منهم مادامت الحاجة إليهم هناك ماسة.

الأمر يتعلق بمراكز البحث ومدّها بالقدرات المالية السخية لأننا موعودون بالمزيد من التحولات الفيروسية، وليس من المنطق أن تضع الدول يدها على خدها في كل مرة وعيونها شاخصة نحو الدول الغربية لتأتي إليها بالحلول.

كل هذا من دون بخس التخصصات العلمية الأخرى حقوقها، المتعلقة بالطاقة والاقتصاد والتكنولوجيا والهندسة والفنون والسياسة والإنسانيات وغيرها، فالحياة تقوم على هذا التناغم وليس الإزاحات لتخصصات من أجل أخرى لأنَّ "السوق عاوز كده"، ومع ذلك فإنَّ أزمة اليوم تقول بكامل الوضوح: إنهما الركيزتان اللتان نتحدث عنهما منذ عقود مضت: التعليم والصحة!