حمد بن سالم العلوي
لقد كنَّا نمتلك كلبة في القرية اسمها "المغرد"، ونحن نعيش حياة القرون الوسطى قبل العام 1970م، وكانت تعمل وقت السِّلم عمل طائرة الإنذار المبكر "الأواكس"؛ فكانت تغرد بصوت شجيِّ إذا كان الشخص القادم باتجاه القرية من الذين تكررت زياراتهم لها، وهي تفعل ذلك دون أن ترى القادم، فنطرب نحن الصبية لتلك البشرى، التي تزفُّها لنا "المغرد" بعدما عرفنا الشيفرة إياها؛ لأننا سنأكل بشبع طوال فترة الزيارة للقادم. أما إذا كان شخصاً غريباً ذلك الآتي باتجاهنا، فيكون نبيحها منذراً بشيء مجهول، فيأخذ أهل القرية حِذرهم من أي غدر، ولأهل القرية في "المغرد" مآرب أخرى كالصيد مثلاً، لكنها تخاف من الضِّباع؛ فلا تنبح إذا أحست بخطر الضبع؛ وذلك اكتشفته بمحض الصدفة، وسنأتي على ذكره في مناسبة أخرى، ولكن "المغرد" لم تكن بشقاوة "الكلبة براقش"؛ فإذا أحست بشيء غريب أثناء رحلة الصيد، فإنها تقترب من صاحبها ليوجهها بما ينبغي عليها فعله، فقد يرى من المناسب الاختباء، ولأي سبب كان، فإنه يُموئ لها بيده لأخذ الأرض والاختباء، فتجدها تلبد في مكان يواريها عن رؤية الآخرين.. هذه مقدمة عن الطاعة لاتقاء الخطر.
ولكن عندما يقال في الأمثال: "وجنت على نفسها براقش"، فيُضرب هذا المثل على الإنسان مثلاً الذي لا يطيع التعليمات رغم أنها وُجِدت لسلامته، وقصة الكلبة "براقش" يقال إنها نبحتْ عندما رأت أصحابها فرحين بزوال خطر الغزاة عنهم، ولكن فرح براقش كان بصوت مرتفع؛ مما نبه الغزاة إلى وجود أهل القرية في مكان قريب؛ الأمر الذي جَعَل الغزاة يعودون باتجاه صوت براقش، فقضوا على براقش وأصحابها، وبذلك قضت على نفسها وأهل القرية معها.. وقد تكون الرواية على غير هذا النحو، ولكن الذي نريد الوصول إليه، إن النصائح التي تنشرها الدولة لتجنب مرض كورونا "القاتل"، ويسمى هكذا لأنه ليس له علاج ناجع لحد الآن، ومع ذلك الناس يتعاملون مع هذا التنبيه بكل الاستخفاف وعدم الجدية، وطبعاً ليس كل الناس يفعلون هذا، ولكن مهما كان العدد فالالتزام وأخذ الحذر أمر ضروري وحتمي، وذلك حتى تتم السيطرة على هذه الجائحة الوبائية، وإيجاد الترياق الذي يبطل خطورتها.
فمن الناس من يعتمد التوكل على الله، والتوكل أمر مطلوب.. ولكن ليس بالتواكل، وليس دون الأخذ بالأسباب والحذر، فيروى في الحديث الشريف، أنه جاء رجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك ناقته دون أخذ بالاحتياطات الكفيلة ببقائها في مكانها حتى يعود إليها، فقال إنه متوكل على الله في ذلك، فقال له الرسول عليه السلام عُدْ إلى ناقتك واعقلها ثم توكل على الله بعد ذلك. إذن؛ التوكل القولي لا يكفي وحده، وإنما يجب أن ترافقه بالأفعال.
تُرى إلى متى سنظل نقرأ القرآن ولا نأخذ بالعِبر منه؟! فهذه قصة السيدة مريم -عليها السلام- وذلك في قوله تعالى: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" (مريم:25). إنَّ الذي خلق لها الجنين في بطنها بنفخة من روحه، أليس بقادر على أن يأمر النخلة أن تساقط عليها الرطب دون جهد منها، ثم إن هذه المرأة الضعيفة جسدياً ونفسياً، كيف يكون بمقدورها في ذلك الظرف العصيب أن تفعل شيئاً كهذا؟ بأن يطلب منها أن تهز بجذع نخلة.. وليس بسعفة منها!! ألا ترى أيها الإنسان أن الأشياء لا تأتي إلا بالمسببات، ثم إنك أيها المتوكل بل المتواكل على الله؟! هل تستطيع أن تجلس في بيتك وتنتظر الرزق المقسوم ليأتي إليك من ذاته؟! أم تسعى إليه بالعمل، فإن السعي للصحة واتقاء الأمراض كذلك بالعمل.. فما لكم كيف تحكمون!!
لقد نأى الناس عن الطاعة التي تعود عليها الإنسان العُماني، بظنِّهم أنَّ مخالفة الحكومة فيها شيء من قوة الإرادة، والعنفوان والحرية التي يتغنَّى بها البعض إعلاميًّا، لكنهم في واقع الحال تنتهي بهم إلى تكسير العظام أو حتى القتل، ففي أمريكا العظمى إذا أوقفتك دورية الشرطة، ولم تستجب للتعليمات فإنهم يشهرون عليك سلاح القتل، وإذا أسلمت لهم الأمر بعد رفض، فإنهم سينزلونك من سيارتك، ويرغمونك بالنوم على بطنك، وعندئذ يهجمون عليك بكل ثقلهم، لوضع الأصفاد في يديك، فإذا سلمت ضلوعك من الكسر، فلن تسلم من الصفع واللكم والسب والشتم؛ لذلك يتورط الشباب العرب بتصديقهم لتلك الحرية، فيعودون لأهلهم في صناديق، ونحن في بلداننا العربية لا نستطيع أن نقنع الناس بعدم السرعة في الأحياء السكنية، فصرنا نردعهم بالمطبَّات، فمتى سنردع الناس بالمنطق أو قوة القانون يا تُرى؟! أظن ذلك سهل جدًّا، فقط عندما يطبق النظام على الجميع، ودون تدخل من أحد مهما عَلَا مقامه، لأنَّ مقام القانون والنظام أعلى من الجميع.
أتعلمون كيف المملكة الأردنية سيطرت على الوضع في ظل جائحة كورونا؟ والأردن أكثر سكاناً من السلطنة، ومع ذلك فإنَّ نسبة المصابين عندهم لم تصل الألف إصابة، فقد سيطرت على الأمر بالفهم والحزم؛ فالناس فهموا الخطر وعملوا لاتقائه، والحكومة من جانبها طبقت الحزم، وهذا الذي ينفع مع العنصر العربي، فإما أن ترتدع بنفسك وتحترم ذاتك، وإما أن تُجبر على النظام وبالنظام، ولا مسار ثالث ورابع في الأمر؛ فالصحيح عندنا أعداد من البشر لا يفهمون اللغة العربية، ويرون أن مصلحة العمل وقبض المال أعلى من النظام، لكن هؤلاء أتوا بكفالات محلية، إذن كل جهة أتت بوافدين، عليها هي مسؤولية تبصيرهم وتوجيههم، ونقل التعليمات إليهم.. وانتهى الأمر.
إذن، لا مجال للتهاون والمسايرة، بل علينا أن لا نتساهل في هذا الأمر مطلقاً، وأن نلجأ إلى الحزم، فلنحفظ بلدنا وصحتنا وأموالنا من الاستنزاف نتيجة إهمال البعض وتقصيرهم، وأن نستعيض ونستبدل المطبات لكسر جموح الناس بنظام الخيزران والغرامة بالمال، ولنضع الحرية والديمقراطية جانباً، عندما نجد من لا تهمه حياته وحياة الآخرين، ودائماً للضرورة أحكامها، وتطبق في وقتها المناسب، وهذا هو الوقت المناسب، والتربية والمثاليات لها وقت آخر، وعدم إغفال ذلك في المستقبل، لأنه من غير المعقول أن نترك بذخ الحرية ليُهلكنا، وقد جربنا تحميل الناس مسؤولية أنفسهم، فأهملوا القيام بواجبهم، وهنا الشرع يُعطي صلاحية حماية الناس من شرور أنفسهم، لولي الأمر ممثلًا في السلطة الرسمية.
اللَّهُمَّ احفظ وطننا عُمان وشعبها وسلطانها المعظم، وكافة بلاد المسلمين من شرور كورونا، وأخواتها والعابثين بها، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، يا ربِّ العزة والجلال.