تغريدة تغرق في عمق المحيط

د. سيف بن ناصر المعمري

لم تكن هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة؛ التي تحاول فيها بعض وسائل الإعلام الزج باسم سلطنة عُمان في ما يجري من حروب وصراعات إعلامية عبثية تجري في المنطقة، أعلنت عُمان اعتزالها وعدم الاصطفاف فيها مع أي أحد، ولكن هذه المرة اختار فيصل القاسم أن يُغرِّد في المحيط الذي روض كل الزوابع التي حاولت أن تُبعد عُمان عن حياديتها وعزلتها وسلامها، وموقفها الثابت من كل الصراعات التي تجري عربيا.

السُّلطان الراحل قابوس -طيَّب الله ثراه- قلعة السلام التي تكسَّرت على مبادئها الراسخة كل الخلافات؛ فقرَّر هذا المذيع التغريد فوق هذا المحيط العميق تاريخيًّا بمُوَاقفه الثابتة التي لا يختلف عليها اثنان، وزجَّ بصورة السلطان الراحل في تغريدة حول التطبيع مع إسرائيل، لكن عُمق هذا المحيط ابتلع تغريدته فورًا، ويبدو أنه لم يُحسن حساب مدى اتجاهه المعاكس لمجرى الحقيقة والتاريخ العربي المعاصر، ولم يدر في خلده أن الصورة -التي وضعها للسلطان المغفور له بدلا من أن تدعم كلماته التحريضية المثيرة لشعب وقضية تعود الإعلام أن يتاجر بها، ويتباكى عليها دون أن يقدم لها ما تستحق من اهتمام- قادت إلى نقل أكثر من ألف ألف كلمة يقال إن الصورة عادة تُغني عنها؛ عن دور السلطان قابوس وعُمان في الوقوف مع الحقوق العربية، خاصة تلك المتعلقة بثلاث دول.. الأولى: فلسطين التي أراد القاسم في تغريدته تحريض أهلها ضد الدول العربية وفي مقدمتهم عُمان، وثانيها: سوريا التي يحمل القاسم جنسيتها، وثالثها: قطر التي يعمل على ترابها؛ هذه الثلاثية التي وقف منها السلطان قابوس وعُمان فيها موقفا لا يمكن أن ينسى، لا نقول تاريخيا فقط، بل ونادرا، في ظل واقع عربي تتبدل فيه المواقف، ويزداد فيه الخذلان.

... إنَّ هذه التغريدة التي غرقت، وغرق صاحبها معها في مواجهة هادرة من محيط يحمل حبا وتقديرا كبيرا للسلطان الراحل، ليس من داخل عمان فقط ولكن من محبي السلام في المنطقة بأجمعها، الذين يعرفون جيدا الدور الذي لعبه السلطان قابوس -طيَّب الله ثراه- طوال خمسة عقود من مناصرة القضايا العربية، وعدم التدخل في شؤون أي أحد، وعدم مهاجمة أحد أو مقاطعة أحد، أو إغلاق الأجواء في وجه أي عربي، حتى في وجه هذا المذيع الذي لا يمكنه أن يدخل بعض البلاد العربية، إنَّ هذه التغريدة تجعلنا نتساءل حول هذا الإصرار لدى هذا المذيع وغيره من الإساءة إلى هذه الشخصية وهذا البلد الذي يمثل الأمل الباقي في المنطقة في تحريك صحوة عربية تقود لتجنب المشاركة في تعميق هذا "الخراب العربي"، الذي يدفع فيه العرب كل يوم ثمنا باهظا من حياتهم ومستقبلهم وثرواتهم؟ أي اتجاه معاكس هذا الذي يحاول توسيع دوائر الخراب العربي؟ أي واقع هذا الذي تتحول فيه القنوات التليفزيونية والمذيعون والإعلاميون إلى التحريض وتأجيج الصراعات وإشاعة الفرقة بين الأشقاء، في وقت ينشد الناس منهم أن يكونوا حراسًا للحقيقية، ومعبرين عنها، بل يكونون سلطة ضد أي تزييف وتحريض، خاصة ضد الذين شهد لهم العالم بأجمع بعدم انحيازهم إلا لمواقف السلم والحوار وتوطيد المحبة، بين الفرقاء وخاصة من حاول هذا المذيع تحريضهم؟!

قد يكُون فيصل القاسم وهو يطلق تغريدته الغارقة، أراد أن يختبر هدوء العُمانيين وصمتهم، وقد يكون أراد أن يحظى ببعض الضجيج بالإساءة إلى السلطان قابوس وعمان ومواقفه بعد أن خفت تأثير برنامجه، لعلمه أن السلطان قابوس وعمان وسياستها الخارجية من الأمور الواضحة التي لا يختلف عليها أحد؛ ومجرد المضي في اتجاه معاكس لما هو معروف سوف يكون مرفوضا لدى الجميع، خاصة تلك الأصوات التي سئمت الأدوار التحريضية لوسائل الإعلام، والتي ما عادت تطيق حرارة تلك الحرائق التي يشعلها الإعلاميون دون تأمل في الخراب والتشرد، والجوء والبؤس الذي تعاني منها كثير من البلدان العربية، وكأن هذه الأصوات تعودت علي إشعال الحرائق، وباتت تضمر الكراهية لكل من نَذَر حياته لإطفاء حرائقهم؛ مثل السلطان قابوس -طيَّب الله ثراه- وبات يُقلقهم وجود بلدان؛ مثل: عُمان تغرِّد خارج سرب الأحلاف الشيطانية، والإعلام التحريضي، وتفعل بقناعة ما تمليه عليها عروبتها، وانتماؤها، ومبادئها، وأخلاق ساكنيها، بعيدا عن أية ضغوطات أو حملات باطلة تُشن من هنا وهناك، ما تلبث أن تغرق في محيط الحلم العماني الذي غرقته فيه محاولات كثيرة من قبل، وسوف تغرق فيها محاولات أخرى في الغد، ولا أمل لأحد أن يجعل عمان جزءا من محور الكراهية، لأن عُمان والعُمانيين اختاروا منذ زمن بعيد جدا -ربما لا يَعِيه هؤلاء الإعلاميون- أن يكونوا محور خير ومحبة وسلام ووئام.