التلقائية: الضرورة والحل
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
* كاتب قطري
ذكرتُ فيما مضى أن "نظرية التلقائية الإنسانية" هي المعضلة وهي الضرورة، وهي أيضاً الحل، أو مفتاح الطبيعة البشرية، أما كونها معضلة فلأنها أصل الإعاقات أمام تقدم مجتمعاتنا؛ كونها تحتل القابليات بتصورات ومعلومات غير ممحصة، شرحناها سابقاً.
وأما كونها ضرورة؛ فلأنها مصدر تكوين اللاوعي الذي ينبجس منه الوعي، الذي نقل الإنسان من عالم الطبيعة والقابليات الفارغة إلى عالم الإنسان ذي الثقافة المحدودة. إنَّ حياة الإنسان تعتمد على الفيضان التلقائي لمخزون اللا وعي الذي تكوَّن تلقائيًّا عبر سنوات التنشئة الطويلة؛ إذ يُولد غير مكتمل التكوين: جسديًّا ونفسيًّا وثقافيًّا؛ فيخضع هذا التكوين للبيئة التي تقولبه، فيتبرمح عقله ووجدانه وكل كيانه بها، وذلك قبل بزوغ وعيه الذي يأتي متأخراً، كما يأتي وعيا مطبوعا بالانحياز التلقائي، مبرمجاً على رفض ما يخالفه، ومع ذلك فإنه يتوهَّم بعد ما يكبر أن كل أفعاله خاضعة لإرادته الواعية، ولا يدرك أن محتويات اللاوعي عنده، هي المهيمنة على وعيه وهي آيضاً مصدر استجاباته وردود أفعاله. أما الوعي، فهو قصير المدى، وبطيء الاستجابة، وضحل المستوى.
كيف تكون "التلقائية" مفتاحاً للحل؟
التلقائية.. تقدِّم لنا مفتاحاً لفهم "طبيعة الإنسان"، وتحديد اتجاهات تفكيره وسلوكه، وكيف يستثمر الإنسان فاعلياته التلقائية في التعليم واكتساب المهارات؛ كونها تلقائية تتسم بمرونة مطلقة، خاصة في مرحلة الطفولة.
الإنسان لا يتعلم بفاعلية، ولا يكتسب المهارات، ولا يتحلى بالأخلاق الحضارية، إلا إذا جاء كل ذلك استجابة لتلقائيته ورغباته واهتماماته التلقائية العميقة؛ فبواسطة الشغف يتعلم الإنسان بسهولة، ويكتسب المهارات، وباحترام تلقائيته مع توفير الوسائل والفرص والمعارف تمتلئ قابلياته، فيفيض معرفة ومهارة وتهذيبا؛ لذلك فإنَّ قمع حرية الإنسان وقهره يمثل عدواناً على تلقائيته، وإنسانيته، وكرامته، فيجعله عاطلاً غير منتج.
لكي نُدرك الفاعلية العجيبة المدهشة للتلقائية، علينا تذكر أنَّ آلاف اللغات تكونت تلقائيًّا، لذلك فإن الأطفال يتمثلون لغات ولهجات أهلهم تلقائيًّا، لكنهم يجدون صعوبة في تعلم لغات أخرى بعد أن يكبروا.
التلقائية قَدَر الإنسان -أفراداً ومجتمعات- وهي سبب إظلام عقله أو استنارته، والفرد إذا وعي طبيعته التلقائية، واستخدمها بكامل طاقاتها، فإنه يُمارس حياته بكفاية عالية، مُتصالحاً مع نفسه ومجتمعه، متكيفاً مع أوضاعه، مفتوح القابليات لاكتساب المعارف والمهارات والأفكار الخلاقة.
أما جهل الإنسان بطبيعته التلقائية، وبهيمنة اللاوعي عليه، فيجعله أسيراً للرواسب التلقائية، غير الممصحة، التي تشربها من البيئة منذ طفولته، وهي تتحكم بتفكيره وسلوكه وأدائه وأخلاقه وتعاملاته، فليس الإنسان إلا ما تبرمج به وما اعتاده وما تآلف عليه: سلبًا أو إيجابًا.
... إنَّ قابلية الإنسان للبرمجة، وقابليته أيضاً للتعبئة بالوعي الزائف، إذا بقيت مجهولة، فإنها تسبب أضراراً فادحة للأفراد والمجتمعات الإنسانية أجمع؛ لأنها السبب في التبرمج بأسوأ الثقافات، وفي الغبطة التلقائية به، ولكن إذا فهمنا هذه القابليات، واستثمرناها بمهارة وبحُسن تنظيم، فإنها ترتقي بالفرد والمجتمع إلى ما لانهاية له، وتصبح مصدر تفرد وانطلاق لنا، وعامل تقدم لمجتمعاتنا وازدهارها.
أخيراً.. للقارئ أن يتساءل: ما الذي أضافه البليهي بنظرية "التلقائية" و"البرمجة" عن المقولات المعروفة "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، و"من شب على شيء شاب عليه"، وقديماً قال أبو العلاء المعري (الشاعر والفيلسوف):
وينشأ ناشئ الفتيان منا…على ما كان عوده أبوه!
والجواب أنَّ هذه المقولات، معارف متناثرة، ومعلومات جزئية مفككة، لا تشكل علماً أو نظرية متكاملة. إن معرفتك بألوف المعارف الجزئية ليست علما، ما لم ينتظمها رابط يجمعها في قانون واحد أو نظرية أو علم، وهذه وظيفة المفكر والفيلسوف والعالم، يتناول هذه المعارف والمعلومات الجزئية المتناثرة بتفكير منهجي، يكشف القانون العام الذي يربطها، ليصوغها في نظرية أو علم، يفسر به المعارف الجزئية، وهذا ما فعله البليهي باكتشافه نظرية التلقائية... وللحديث بقية.