عبيدلي العبيدلي
كما هو واضح، تمكَّن العرب من امتلاك مختلف أنواع المواد الخام الأولية الضرورية التي يمكن أن يكون لها كلمة مسموعة في ردهات قصر النظام الدولي القائم، أو صرح ذلك القائم المنبثق عنه. لكن تلك المواد الخام، لم تكن وحدها كافية لتحقيق تلك النقلة النوعية المطلوبة التي تجعل منهم مثل تلك القوة التي لها موقع التأثير في نسج العلاقة مع النظام الدولي.
وأمام العرب مجموعة من الطرق المتكاملة، التي قد تصبح متنافرة، ما لم تسلك بعناية شديدة ووعي مسبق، وخطوات محسوبة، تحقق للعرب القدرة المطلوبة التي تجعل منهم لاعبا له كلمته المسموعة، بل والمؤثرة، في النظام الدولي الجديد الآخذ في التكون، والذي كما تلمح بوادره، سيكون للصين، بالإضافة إلى روسيا، مرة أخرى، موطئ قدم في مفاصله الرئيسة، والكلمة التي يصاخ السمع لها في آلية صنع القرار في دوائر صنع قراراته.
لكنهم -أي العرب- كي يَلِجُوا تلك الطريق من مدخلها الصحيح، ويسيروا فيها بخطى واثقة، ورؤية راسخة تمكنهم من الوصول إلى تلك المرتبة المتقدمة، الحاضنة لعلاقات التأثير المتبادل المتكافئ، وليس التابع، للنظام الدولي، لا بد لهم من فهم وقبول قوانين حقائق المرحلة المقبلة التالية، التي ربما يكون وقعها صادما، وطعمها مرا، لكن لا مناص من ابتلاع الصدمة، وتجاوز المرارة.
أوَّل هذه الحقائق، أن مثل هذا النظام الدولي القادم لن يرحم أي نظام عربي خاضع للماضي، ومتهالك وسط قيوده، ورافض لأي شكل من أشكال التفاعل الإيجابي مع كل ما يفرزه النظام الدولي من قيم ومفاهيم على المستوى الحضاري، ومن منتجات وخدمات تحتاج إلى ذهنية عربية مبدعة قادرة على التعامل الإيجابي على المستوى الاقتصادي، وغير الرافضة لها، ولا العاجز عن هَضْمِها من أجل استيعابها قبل إعادة تخليقها بشكل مبدع وخلاق؛ بفضل النكهة المحلية التي يمزجها بها.
وثانيتها: أنَّ الانتقال من المواقع الهامشية نسبيًّا التي يحتلونها اليوم، إلى تلك المتقدمة، ليست مجرد قرار فجائي متسرع، نابع من فرد، بل هو عملية تحول جذري، طويلة المدى متعددة المراحل، ولكل منها وجهه المميز النابع من الاستجابة لمتطلباتها التي لا تستغني عنها، وشروطها التي لا تساوم عليها، وجيلها الطموح الذي لا تتقدم بدونه.
وثالث حقيقة تسكُن صلب عملية الانتقال تُشكِّل في مجموعها منظومة ديناميكية، تتمتع بالمرونة المطلوبة التي تؤهلها للسير في سبل متعددة الأبعاد، ومتعرجة في آن. ومن ثمَّ فهي تنبذ الجمود المنطلق من إستاتيكية متحجرة، تتغنَّى بأمجاد ماض "تليد،" ومكبلة بقيود حاضر مشوَّه، وتنظر نحو المستقبل المقبل من خلال حدقة مظلمة، تنشر الرعب، وتزرع التردد المحكوم بشيء من الخوف المشوب بعدم الثقة.
أما الرابعة منها، فهي أنه لم يَعُد في وسع دوائر الحكم منفردة، ولا قوى الشعب وحيدة أن تحقق النقلة النوعية التاريخية المطلوبة؛ الأمر الذي يعني أن يصل الطرفان إلى المعادلة العصرية السليمة القادرة على توحيد جهودهما المشتركة؛ من خلال بناء المنظومة المعاصرة القادرة على تقنين الخلافات، وتدجين الصراعات، للحيلولة دون انفجارها المفاجئ العنيف الذي يلحق بالمجتمع الخسائر الفادحة التي تحرمه من عملية التحول المطلوبة التي نتحدث عنها.
وتفرضُ الخامسة منها نفسها في نسق إطار التفاعل الإيجابي الواعي، غير المنفعل، والمتحاشي التبعية، والبعيد عن التباهي، مع دوائر صنع القرار في الدوائر المفصلية الصانعة لقرار النظام الدولي. لضمان أي صدام غير مبرر، وسد الطريق أمام أية تبعية تسلب النظام العربي حقوقه، وتخل بمقومات المكانة، المتقدمة، والمؤثرة في النظام الدولي التي يبحث عنها.
ونختم بالسادسة منها، موجزة في امتلاك التحليل الرصين القائم على امتلاك المحرك الذكي المتمكن من تحليل واقع منظومة النظام الدولي، بشكل موضوعي، ينطلق من تحليلات علمية، مصدرها حقائق صحيحة، ومعلومات سليمة تعين صانع القرار العربي على وضع السياسات السليمة المرتكزة على استراتيجية خلاقة.
ويتطلب تحقيق التفاعل الحي المبدع مع تلك الحقائق، وضع مجموعة من السياسات، المتبوعة بحزمة من الإجراءات، يمكن تلخيص الأكثر أهمية بينها في النقاط التالية:
قناعة مطلقة، غير قابلة للمساومة، بضرورة بناء مجتمع المؤسسات، الذي يذيب الفرد في إطار الأجهزة، فتتراجع الأنا المتعالية لصالح المجموعة المنظمة، بما يضمن ديمقراطية القرارات المنبثقة من خلفياتها التخطيطية التي قام بوضعها تلك المؤسسات، بدلا من تسلط فردي لم يعد مجديا، ولا منسجما مع مجتمع المؤسسات المطلوب بنائه بعناية فائقة.
اعتقاد راسخ، بأن الموارد البشرية هي الرأسمال الأهم في هذا التحول، ومن ثم فهو حجر الأساس للوصول إلى تحول ثابت متَّجه نحو الأمام، وغير قابل للالتفات نحو الخلف، إلا حين تدعو الحاجة لفهم الماضي، لترسيخ الخطوات المتجهة نحو الأمام.
وتثمين ناضج لدور التعليم في تحقيق النقلة الضرورية، التي من شأنها تحقيق المواءمة التي لا تستغني عنها متطلبات المجتمع المعاصر، دون التفريط في الهوية الحضارية. وهذا يقتضي توافر رؤية واسعة الأفق تتجاوز قيود التخندق الجامد التي تأسر التحولات المطلوبة، وبالقدر ذاته تحارب النظرة الدونية التي تزدري ماضي المجتمع العربي، وتخضع لكل ما هو قادم من الخارج. معادلة هذا التوازن معقدة، والحفاظ على عواملها بحاجة إلى اعتدال يزاوج، بمهارة مبدعة بين ماض يشد نحو الخلف، ومستقبل يدعو نحو الأمام.
استخدام واع مسؤول للموارد الطبيعية، وعلى وجه الخصوص الناضبة منها، وفي مقدمتها النفط، لضمان بناء مجتمع الحاضر بشكل منتج، دون التفريط بمتطلبات المستقبل، التي هي الأخرى بحاجة إلى مثل هذه الموارد، لضمان استمرار ليس تطور المجتمع القائم فحسب، بل تلبية شروط الاستمرارية والنمو من جانب آخر.
تلك الحقائق والخطوات التي تفرض شروط الانتقال المطلوب من حالة التلقي المطلق الذي يرزح تحت عباءة التبعية للنظام الدولي التي يعيشها العرب اليوم، إلى مستوى التفاعل الإيجابي المؤثر، تشكل في مجموعها منظومة متكاملة، غبر قابلة للتجزئة، وترفض المساومة الساعية لانتقاء أحدها او البعض منها، ورافضة الآخر، او نابذة له.
مرة أخرى خمائر مكونات ذلك الانتقال بحوزتنا نحن، لكنها لا تزال بحاجة لمن يحولها من حالة الخام الساكنة، إلى حالة النظام الديناميكية.. وهو أمر لم يعد مستحيلا، لكن القرار بيد العرب، وليس أحدا سواهم.