التلقائية الإنسانية
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
** كاتب قطري
ذكرت في المقال السابق، نظرية "التلقائية الإنسانية" معوقاً لانفتاح "الثقافة" ولضعف فعالية "التعليم" ولعدم تحقيق "مشاريع التنمية" أهدافها، واستكمل هنا، تداعيات الإعاقة على:
- العقل العربي؛ حيث يرى البليهي أنه لاوجود لعقل جوهري عام، العقل صناعة محلية،و كل بيئة تصوغ عقول أبنائها (تلقائياً) بتصوراتها، فإذا كانت خاطئة، استمر خطأ الرؤية والسلوك، لتبقى مغتبطة بما تبرمجت به، لاتعرف مكمن الخلل فيها، منغلقة على ذاتها، لاتسمح بتسليط أضواء الفكر والعلم على تصوراتها، تتوهم أن الخلل في الآخرين.
ومع التسليم بأن كل بيئة تصوغ عقول أبنائها، إلا أني أخالف مفكرنا، نفيه وجود عقل جوهري عام، وأرى تبعاً لديكارت (العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر) إذ لولم يكن كذلك، لما صح التكليف الإلهي للبشر، ف (العقل جوهر واحد) ولكن (العقليات) متعددة، والبشر يتفاوتون في (العقليات) لا (العقول) تبعاً بما يتبرمجون به، فهو اختلاف (عقليات) لا (عقول)
وعند مفكرنا أن رباعي التخلف : الانغلاق الثقافي، والقمع الاجتماعي، والاستبداد السياسي، وتحالف ممثلي الثقافة وقادة السياسة، هو الذي أغلق العقل العربي وأفسد قابلياته.
- الموقف المجتمعي من الحضارة الغربية:
معيار التحضر هو القدرة على التغير، والمجتمعات في مواقفها من الحضارة على مواقف ثلاثة: مجتمعات اعترفت سريعاً بالقصور، واستنفرت جهدها لاستيعاب مقومات الصعود، فنجحت نجاحاً سريعاً باهراً(اليابان) ومجتمعات تلكأت في الاعتراف، ثم تداركت وراحت تغذي السير للبناء، والأخذ بالمقومات الجديدة، فحققت التقدم بسرعة مذهلة (الصين) ومجتمعات مازالت تكابر، وتدعي الكمال، وتستسهل اتهام الآخرين، فتزداد انغلاقاً وعجزاً.
- مظاهر التحديث لا تأثير لها في تطوير مجتمعاتنا:
نظرية التلقائية تجيبنا عن سر عدم فاعلية التحديث في تحقيق النقلة النوعية لمجتمعاتنا رغم انغماسها الطويل في مظاهره، واحتكاكها الكثيف بحضارة العصر!
مجتمعاتنا تظل تتوارث قوالب أسلافها، مهما كانت قوة المؤثرات الخارجية، ومهما ملأت أرضها بالمدارس والجامعات ومراكز البحث، فالتلقائية السائدة تصمد أمام أي مؤثر طارئ مالم يكن مزلزلاً جارفاً .
- الجهل المركب:
ليست المعضلة فيما نجهله، بل فيما نعتقده حقائق، بينما هو أوهام، هذا الجهل المظنون علماً، هو ما ينبغي دراسته وتفكيكه . الجهل المركب ليس عدماً، بل ركام من التصورات الخاطئة الراسخة، تتوارثها الأجيال باعتبارها حقائق أغلى من الحياة، تموت دفاعاً عنها ! وهذا أخطر معضلة بشرية، تذكرنا بقوله تعالى (الذين ضَل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
- لا حدود للجهالات:
قال تعالى "إن الإنسان لَظَلُوم جهول" فمن المفارقات في الحياة الإنسانية، هذه الفجوة الهائلة بين تعاظم الإنجازات التي تحققها الإنسانية، وتضاؤل الرشد والحكمة في سياسات قادة العالم، التي أنتجت جهالات مدمرة، وأحقاداً وكراهيات وبشاعات على مستوى الشعوب والأمم، هذه الصراعات والنزاعات ماهي إلا تجليات لتلك الجهالات .
- ضعف تأثير المواعظ والتعاليم والمبادئ:
الحياة الإنسانية، سلسلة من العادات السلوكية والذهنية، فليس المهم ما يقال، بل ما يعتاده الإنسان، ويمارسه كأسلوب حياة وطريقة تفكير، فلا تأثير لأي مواعظ أو مبادئ أو معارف او تعاليم لا تتحول إلى عادات تلقائية .
- التحقق والتثبت ليسا طبيعة في الإنسان؛ لذلك يتسرع بإطلاق الأحكام المسبقة، لذا ينبغي عدم التسرع، والتعود على تعليق الأحكام حتى يتم الاستقصاء والتحقق.
- يصاغ الإنسان بما يتبرمج به، وبما ينضاف إليه، لا بما يولد به، فالمعارف المُضافة والمهارات المكتسبة هي التي تميز فرداً عن آخر، وهنا تسقط دعاوى العرقية والتمييز العرقي والأحكام النمطية.
- الإنسان كائن تبريري؛ والعقل أداة تبرير، لا يبحث عن الحقيقة بقدر بحثه عن المصلحة وحفظ البقاء وتحقيق المكانة، فالذي تشبع في طفولته بثقافة أو معتقد معين، سيبقى أسيرا لهما، يستخدم عقله لتبريرهما، وهكذا كل إنسان بحسب ما تبرمج به. قال تعالى "قل كل يعمل على شاكلته"...
وللحديث بقية.
البليهي: مبدعاً تنويرياً استثنائياً (3)
التلقائية الإنسانية
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
** كاتب قطري
ذكرت في المقال السابق، نظرية "التلقائية الإنسانية" معوقاً لانفتاح "الثقافة" ولضعف فعالية "التعليم" ولعدم تحقيق "مشاريع التنمية" أهدافها، واستكمل هنا، تداعيات الإعاقة على:
- العقل العربي؛ حيث يرى البليهي أنه لاوجود لعقل جوهري عام، العقل صناعة محلية،و كل بيئة تصوغ عقول أبنائها (تلقائياً) بتصوراتها، فإذا كانت خاطئة، استمر خطأ الرؤية والسلوك، لتبقى مغتبطة بما تبرمجت به، لاتعرف مكمن الخلل فيها، منغلقة على ذاتها، لاتسمح بتسليط أضواء الفكر والعلم على تصوراتها، تتوهم أن الخلل في الآخرين.
ومع التسليم بأن كل بيئة تصوغ عقول أبنائها، إلا أني أخالف مفكرنا، نفيه وجود عقل جوهري عام، وأرى تبعاً لديكارت (العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر) إذ لولم يكن كذلك، لما صح التكليف الإلهي للبشر، ف (العقل جوهر واحد) ولكن (العقليات) متعددة، والبشر يتفاوتون في (العقليات) لا (العقول) تبعاً بما يتبرمجون به، فهو اختلاف (عقليات) لا (عقول)
وعند مفكرنا أن رباعي التخلف : الانغلاق الثقافي، والقمع الاجتماعي، والاستبداد السياسي، وتحالف ممثلي الثقافة وقادة السياسة، هو الذي أغلق العقل العربي وأفسد قابلياته.
- الموقف المجتمعي من الحضارة الغربية:
معيار التحضر هو القدرة على التغير، والمجتمعات في مواقفها من الحضارة على مواقف ثلاثة: مجتمعات اعترفت سريعاً بالقصور، واستنفرت جهدها لاستيعاب مقومات الصعود، فنجحت نجاحاً سريعاً باهراً(اليابان) ومجتمعات تلكأت في الاعتراف، ثم تداركت وراحت تغذي السير للبناء، والأخذ بالمقومات الجديدة، فحققت التقدم بسرعة مذهلة (الصين) ومجتمعات مازالت تكابر، وتدعي الكمال، وتستسهل اتهام الآخرين، فتزداد انغلاقاً وعجزاً.
- مظاهر التحديث لا تأثير لها في تطوير مجتمعاتنا:
نظرية التلقائية تجيبنا عن سر عدم فاعلية التحديث في تحقيق النقلة النوعية لمجتمعاتنا رغم انغماسها الطويل في مظاهره، واحتكاكها الكثيف بحضارة العصر!
مجتمعاتنا تظل تتوارث قوالب أسلافها، مهما كانت قوة المؤثرات الخارجية، ومهما ملأت أرضها بالمدارس والجامعات ومراكز البحث، فالتلقائية السائدة تصمد أمام أي مؤثر طارئ مالم يكن مزلزلاً جارفاً .
- الجهل المركب:
ليست المعضلة فيما نجهله، بل فيما نعتقده حقائق، بينما هو أوهام، هذا الجهل المظنون علماً، هو ما ينبغي دراسته وتفكيكه . الجهل المركب ليس عدماً، بل ركام من التصورات الخاطئة الراسخة، تتوارثها الأجيال باعتبارها حقائق أغلى من الحياة، تموت دفاعاً عنها ! وهذا أخطر معضلة بشرية، تذكرنا بقوله تعالى (الذين ضَل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
- لا حدود للجهالات:
قال تعالى "إن الإنسان لَظَلُوم جهول" فمن المفارقات في الحياة الإنسانية، هذه الفجوة الهائلة بين تعاظم الإنجازات التي تحققها الإنسانية، وتضاؤل الرشد والحكمة في سياسات قادة العالم، التي أنتجت جهالات مدمرة، وأحقاداً وكراهيات وبشاعات على مستوى الشعوب والأمم، هذه الصراعات والنزاعات ماهي إلا تجليات لتلك الجهالات .
- ضعف تأثير المواعظ والتعاليم والمبادئ:
الحياة الإنسانية، سلسلة من العادات السلوكية والذهنية، فليس المهم ما يقال، بل ما يعتاده الإنسان، ويمارسه كأسلوب حياة وطريقة تفكير، فلا تأثير لأي مواعظ أو مبادئ أو معارف او تعاليم لا تتحول إلى عادات تلقائية .
- التحقق والتثبت ليسا طبيعة في الإنسان؛ لذلك يتسرع بإطلاق الأحكام المسبقة، لذا ينبغي عدم التسرع، والتعود على تعليق الأحكام حتى يتم الاستقصاء والتحقق.
- يصاغ الإنسان بما يتبرمج به، وبما ينضاف إليه، لا بما يولد به، فالمعارف المُضافة والمهارات المكتسبة هي التي تميز فرداً عن آخر، وهنا تسقط دعاوى العرقية والتمييز العرقي والأحكام النمطية.
- الإنسان كائن تبريري؛ والعقل أداة تبرير، لا يبحث عن الحقيقة بقدر بحثه عن المصلحة وحفظ البقاء وتحقيق المكانة، فالذي تشبع في طفولته بثقافة أو معتقد معين، سيبقى أسيرا لهما، يستخدم عقله لتبريرهما، وهكذا كل إنسان بحسب ما تبرمج به. قال تعالى "قل كل يعمل على شاكلته"...
وللحديث بقية.