أبعد من حدود النظر!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi969@

 

"من ذاق ظلمة الجهل أدرك أنّ العلم نور". مصطفى نور الدين.

 

قبل فترة قصيرة كنت أجهز لتجميع مصادر ومراجع لإنجاز بحث علمي، وكنت قد رتبت أموري وفق جدول زمني أستجمع به الفترات، وأدون كل فترة وما هو المنجز المطلوب، من ضمن ما تم الاستعداد له هو جولة على عدد من المكتبات العامة، بحثا عن مصادر أومراجع ذات صلة بالبحث المزمع إنجازه، وكانت الفترة المتوقعة لإنجاز البحث في حال سارت الأمور على ما يرام وفق المخطط هي ما بين ثلاثة أشهر ونيف وأربعة أشهر.

كنت متحمسا لإنجاز هذا البحث لا سيما أنّه أول عمل علمي أقوم به بعد التخرج من الجامعة، حيث كنت منذ زمن أرغب في الكتابة البحثية ذات المضمون العلمي، وكنت أعتبر هذا الأمر قاعدة للوصول إلى أفضل وضع ممكن في هذه الأمور.

جلست مع عدد من الذين أحتاج رأيهم ومشورتهم بخصوص هذا البحث، كونت فكرة جيدة نوعا ما، وبعد تعديلات كثيرة على الخطة العامة للبحث فوجئت ذات مرة أثناء البحث بأحد الكتب التي تعتبر من المصادر المهمة للبحث المزمع، ولما قرأت أول صفحة وجدت نفسي وقد وصلت الفصل الأخير من الكتاب!

المفاجأة أنّي وجدت كل ما أفكر فيه في هذا الكتاب، واقتنعت أيضًا بأنّي مهما وصلت من نتيجة لن أتعدى ما وصل إليه هذا الكتاب، بل إنّي وجدت في الكتاب المصدر كل الأفكار التي أرغب بالتركيز عليها، وكأنّ المؤلف كان يتحدث بلساني، ويفكر نيابة عني، وأحلف لو كان زمن تأليف هذا الكتاب منذ وقت قريب لشككت في نفسي بأنّي أنا من أعطاه هذه الأفكار!

سألت نفسي: إذن لما الجهد والتعب طالما أنّي لن أقدم جديدا؟

بديهيا انتهت فكرة البحث، وطويت المسودات والهوامش والقصاصات التي بدأت بترتيبها، لأنّ ما سأكتبه لن يختلف عن مضمون وفكر الكتاب الذي قرأته، وأصبحت واقفا في مفترق طرق بين أمرين:

إما أكتب البحث الذي لن يأتي بجديد، ومجرد مطبوع لا يقدم ولا يؤخر، قد يتم الاحتفاء به كمجاملة أو لجهل إنما لن يرضي ضميري ولا طموحي. وسيكون أشبه بمولود "مشوه".

أو أترك الفكرة بالمرة، وأفكر إما أن أستطيع الايتاء بجديد، أو أرحم نفسي والقارئ الكريم من بحث قد تتكون حوله عدة علامات استفهام.

اخترت الاحتمال الثاني، لأنّ النزاهة العلمية هي القاعدة التي لو أصابها زلزال لتشققت أرضينها وأصبح من الصعب ترميمها، لأنّ أي بحث لا يقدم جديدا هو في الحقيقة قرطاس تمّ الرسم عليه بألوان الحبر بلا فائدة تذكر!

البحث العلمي، أي بحث، إن لم يقدم فكرًا جديدًا أو رأيا جديدًا أو أسئلة جديدة ما الفائدة منه؟

فقط رص أوراق فوق أوراق!

عجبي على الأكاديمي (أيا كانت درجته العلمية) الذي يساوم على العلم ويشتري من سوق النخاسة العلمية "أبحاثا" قد تكون سببا في ترقية علمية، لكنها قطعا ترقية ملطخة بالكذب والاحتيال، وسينكشف أمره والزمن سيثبت من هو كاتب البحث الحقيقي!

قبل مدة سمعت عن مشادة عنيفة بين أكاديميين، بالنهاية علمت أنّ أحدهم لم يدفع أتعاب البحث المكتوب باسمه من عمل الشخص الآخر!

أثناء كتابة هذه الكلمات المتواضعة، سمعت الصوت الجريح عبدالكريم عبدالقادر من كلمات الرائع بدر بورسلي، يغني ـغنية قديمة جدا:

لو بعدت أبعد من حدود النظر

لو خيالك... ما غفا!