اعترافات ثعلب السياسة الأمريكية وحرق العالم!

 

د. مجدي العفيفي

 

(1)

تركت نهاية مقالي السابق مفتوحة على سؤال تراوح بين الاستفهام والاستنكار، وهو سؤال غير بريء: هل من قبيل المصادفة.. أن تتزامن أطروحة "د. هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأسبق - البالغ من العمر 97 عامًا - مع الاستقصاء الذي قدمته مجلة فورين بوليسي الأمريكية حول شكل العالم ما بعد كورونا واستقطبت آراء 12 مفكرا وأكاديميا من أكثر من جهة في العالم...؟

ولم أشأ أن أضع النقطة الأخيرة في السطر، وقد تجلى السبب في قدرة فيروس كورونا على أن يخرج ثعلب السياسة الأمريكية "د.هنري كيسنجر" من "الجُب" الذي يقبع فيه منذ زمن بعيد، زمن القطبية الأمريكية المقيتة، إذ كان كيسنجر أحد أشهر منظري النظام العالمي الجديد، أو الذي كان جديدا، وقلت إنه يتهاوى الآن، باعترافه ولم يعد يصلح بسبب الفيروس الكوني العابر للقارات والأجسام والأفراد والدول والشعوب والزمان والمكان والإنسان والذي ينتقي من ينفذ فيه من سكان كوكب الأرض (!!)

طرح كيسنجر رؤيته في مقال له بصحيفة "وول ستريت جورنال" عنوانه: The Coronavirus Pandemic Will Forever Alter the World Order "جائحة فيروس كورونا ستغيّر النظام العالمي إلى الأبد".

 

(2)

يحاول كيسنجر أن يعود إلى سابق عهده ويكون مثل زرقاء اليمامة، وهو الذي يعد المهندس الأول والأكبر لعملية السلام بين مصر والكيان الصهيوني، وقد أكد في كل طروحاته، بكل دهائه الاستعماري المعروف وخبثه السياسي المشهور، أنها "عملية" أي مجرد عملية قابلة للنجاح أو الفشل The peace process وثبت بعد ذلك أنها عملية فاشلة بامتياز وشواهدها ماثلة ومشاهدها مائلة، وأنها مجرد مجموعة من الأوهام أطلقها هنري كيسنجر اليهودي الأصل، والصهيوني الهوى، والأمريكي التوجه.

حين تقرأ كلمات الثعلب الأمريكي العجوز تستشعر بلا عناء، أنه مهزوم الفكر، باهت التحديق، محبط في السياسة الأمريكية الراهنة، يرى تهاوي البناء الإمبريالي الذي ساهم في تشييده عقودا من الزمن، وهو الذي خدم في عهد الرئيس "نيكسون" ثم الرئيس "فورد" كمستشار للأمن القومي.

 

(3)

يتقاطع الزمن في تحديق كيسنجر وهو يعقد مقارنة متهافتة بين الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم الآن بسبب الوباء الفتاك، والتي يصفها بأنها "مشهد سوريالي" أعادت إلى ذاكرته ما شعر به عندما كان شاباً في الفرقة 84 مشاة خلال معركة "الثغرة" – تسمى أيضاً معركة غابات الأردين، كبريات معارك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية "الآن، كما في أواخر عام 1944، هناك إحساس بالخطر الشديد. خطر لا يستهدف أحداً بعينه، وإنما يهاجم على حين غرة، وبشكل عشوائي دون هوادة. ولكن هناك فرق بين تلك الفترة البعيدة وزمان، كما يشير - ففي السابق كانت القدرة الدفاعية الأمريكية موجهة نحو هدف قومي. أما الآن فنحن في بلد منقسمة على ذاتها، فإن الحاجة تتعاظم لوجود حكومة فعالة ولديها خطط بعيدة النظر للتغلب على العقبات التي لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم والنطاق العالمي للتأثير".

 

(4)

يحاول كيسنجر أن يعود إلى سابق عهده ليكون في حدس "زرقاء اليمامة" إذ يقول "قادة العالم يتعاطون مع الأزمة الناجمة عن الوباء على أساس وطني بحت، إلا أنَّ تداعيات التفكك الاجتماعي المترتب على تفشي الفيروس لا تعترف بالحدود" لكنه لا يستطيع أن ينظر إلى الأفق الأكثر اتساعاً، إنه يقول "الجهود المبذولة لمواجهة تفشي الوباء، رغم ضخامتها وإلحاحها، ينبغي ألا تشغل قادة العالم عن مهمة أخرى ملحة تتمثل في إطلاق مشروع موازٍ للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا".

ثم يعلن العجز الأمريكي لأول مرة في تاريخه السياسي إذ أكد أن "الفيروس يضرب بلا هوادة غير آبه للحدود ولا السيادة. بينما يعتدي الفيروس على صحة الإنسان وآمل أن يكون ذلك مؤقتاً، فإن التداعيات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال ولا يُمكن لأي دولة منفردة ولا حتى الولايات المتحدة أن تتغلب على الفيروس في جهد وطني مخض. يجب أن تقترن معالجة ضرورات اللحظة في نهاية المطاف برؤية وبرنامج تعاونيين عالميين. إذا لم نتمكن من القيام بالأمرين معاً، فسوف نواجه أسوأ ما في كل منهم".

 

(5)

ثمة أصداء في أطروحة كيسنجر.. لتعبيرات هاربة من حقبة السبعينيات من قبيل لعبة توازن القوى.. وخطة مارشال.. ومشروع مانهاتن.. والحلم بالقرن الأمريكي.. (!!).

وتأسيساً على هذه الاستدعاءات يبني منظوره بالتركيز على ثلاثة مجالات رئيسية لمواجهة تداعيات الوباء محليًا وعالميًا، أولها تعزيز قدرة العالم على مقاومة الأمراض المعدية، وذلك من خلال تطوير البحث العلمي.. أما المجال الثاني فهو السعي الحثيث لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الوباء والتي لم يسبق أن شهدت البشرية مثيلًا لها من حيث السرعة وسعة النطاق، كما حث الإدارة الأمريكية على حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي بصفتها المجال الثالث الذي ينبغي التركيز عليه هو التحدي التاريخي الذي يُواجه قادة العالم في الوقت الراهن هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، وإن الفشل في هذا التحدي قد يؤدي إلى إشعال النيران في العالم بأسره.

 

(6)

طوال قراءتي لأطروحة د. هنري كيسنجر، التي طيرتها الميديا بشكل ملفت للنظر، وضخمتها أكثر مما ينبغي، وأنا أستذكر مقولة من كتاب ظهر واختفى من الأسواق، كتبه اثنان من الخبراء الأمريكيين آواخر تسعينيات القرن الماضي، قالا فيه "إن أمريكا هي التي كانت مرشحة للانهيار وليس الاتحاد السوفيتي"، وهنا أستشهد برؤية مفادها أنه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، تلك اللحظة التي خُيِّلَ للأمريكيين معها أنهم تربّعوا على عرش القطبية المنفرد، وباتت مصائر وأقدار العالم طوع أمرهم، اعتبر العم سام أنه زمن "النظام العالمي الجديد"، وفيه أمريكا الاستثنائية، قادرة على القيادة والريادة بمفردها.. اليوم يكاد كيسنجر يلغي هذه النتيجة، والتي تعد قفزا على حقائق التاريخ وطبائع الجغرافيا، جازماً بأنَّ المعالجة الجذرية لتبعات واستحقاقات كورونا لابد لها من أن تقترن في نهاية المطاف برؤية وبرنامج تعاون عالميين، وإذا لم يحدث ذلك فإنَّ الأسوأ سيُواجه الجميع، طبقاً لتنظير المحلل السياسي أميل أمين "كيسنجر.. إدارة الأزمة وبناء المستقبل".

 

(7)

ماذا تقول اللحظة القادمة؟.

علم ذلك عند الله...

وعند من يديرون الحروب البيولوجية!