إبراهيم البليهي .. مبدعاً تنويرياً (2)

 

الإنسان كائن تلقائي

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

** كاتب قطري

 

قضى البليهي عمراً، مُتأملاً مُستغرقاً، باهتمام تلقائي غلاب، مشدوداً إلى تساؤلات حادة مؤرقة، حول الطبيعة البشرية، والعقل، واختلاف الثقافات، والتاريخ  والوجود، والتقدم والتخلف، والعلم والتعليم، لم يقنع بالإجابات الجاهزة. المعضلة الكبرى التي شغلته  وشكلت هماً مؤرقاً، البحث عن نظرية مُتكاملة، تفسر (عجز العرب عن الإفلات من قبضة التخلف) و(استنزاف الطاقات في اتجاه مضاد لحضارة العصر) !

أداه بحثه المضني إلى نتائج ثورية، أبرزها نظرية (الإنسان كائن تلقائي) هذه النظرية تُجيب على تساؤلات معلقة في فضاء الفكر العربي، شرحت في مقالي الأول، جانباً منها، وأحاول هنا، تسليط الأضواء على النتائج المعرفية المترتبة عليها .

 الإنسان كائن تلقائي، يولد بدماغ  فارغ، مفتوح المنافذ لتقبل ما يأتيه من معلومات عبر حواسه، والأسبقية تكون دائماً، للمعلومة الأولى، تحتل دماغه ولو كانت خاطئة، وتصبح معياراً حاكماً، لقبول أو رفض أي معلومات لاحقة..

التلقائية هي (المعضلة) وهي(الضرورة) وهي(الحل)

أما أنها(معضلة) فلأنها السبب الطبيعي للتشرب التلقائي للأوهام والأحقاد والتنافر بين الأمم والثقافات والطوائف، ودعاوى العرقية والتمييز العرقي، ولأنها الأصل في كل الإعاقات البنيوية في  :

  1. الثقافة: المجتمعات محكومة بثقافتها، والأفراد يتشربونها(تلقائياً)، وإذ هم مبرمجون جينياً، فإنهم أيضاً مبرمجون ثقافياً، يتوارثون ثقافتهم السابقة (تلقائياً) كما يتوارثون جيناتهم بيولوجياً، يمتصونها ثقافة متقدمة في المجتمعات المتقدمة، ومتخلفة في المجتمعات المتخلفة.

الثقافة كيان مغلق، لها جهاز مناعة يرفض تلقائياً أي ثقافة مُغايرة، والأصل فيها الانغلاق، ولا تنفتح إلا بتوافر الحريات، وصراع الأفكار، وتنافس الاتجاهات، وحينذاك يتحقق الاعتراف بقيمة الإنسان الفرد وترتفع عنه الوصاية.

معيار أي ثقافة يتحدد بموقفها من الحقيقة، والإنسان، والسلطة، فإذا كانت تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وتتوهم الكمال، فإنِّها تغلق الأبواب أمام الأفكار المغايرة، وإذا كانت لا تحترم فردية الإنسان، فإنها تذيب الفرد وتطمس قابلياته، فتوصد فيه منافذ المبادرة والإبداع، وإذا كانت تقدس السلطة، فإنها تستبقي المجتمع خاضعاً وتابعاً كئيباً..

لقد مضى أكثر من قرنين، ونحن نبحث في ثقافتنا عن مقومات التقدم، لكننا نزداد انغلاقاً وبعداً عن الحضارة، فنظلم ثقافتنا، حين نطلب منها ما لا تملكه .

  1. التعليم: إنا نعيش وهماً خادعاً حين نعول على تعميم التعليم، والإكثار من الجامعات، وإغداق الأموال على البحث العلمي، سبيلاً للتغيير والتقدم، تعليمنا تابع للثقافة ومحكوم بها، فإذا كانت الثقافة مُغلقة متخلفة، فإنه يرسخها، ويشحن النفوس بالرفض العنيد الأعمى لمقومات التقدم، فلا يصنع التغيير، بل يسرق أزهى وأنشط أعمار أجيالنا، ولا يعطي نتاجاً مغايراً للسائد، بل يكرسه، إن نهضة الفكر شرط أساسي لجدوى التعليم، فالمجتمعات الأوربية لم تتطور، في البداية بالتعليم، بل تغيرت فيها التصورات أولاً، ثم جاء التعليم ليحقق الانطلاق.

ومع طوفان المعلومات، وتوافر وسائل حصولها للجميع، فإنَّ العالم سوف يشهد تغييرات جذرية في التعليم، تنهي بها مُعاناة الملايين التي تضيع أعمارهم في تجرع معلومات لا يستسيغونها، وليسوا بحاجة إليها.

  1. التنمية: كأني بمفكرنا مجيباً عن تساؤل محير: لماذا لم تحقق مشاريع التنمية العربية أهدافها؟!

العرب يتحدثون كثيراً عن التنمية، لكنهم ما زالوا متبرمجين بثقافة سابقة لثقافة التنمية والعلم والفكر الحديث، فلو فحصنا تصوراتنا لثقافتنا، ولثقافات الآخرين، وعن العتاد الثقافي الذي نكرسه في واقعنا وفِي عقول أجيالنا، لوجدنا أننا عملياً نواصل السير الحثيث في اتجاه مضاد كلياً للتنمية .

التنمية مفهوم طارئ حديث، فهي تتطلب مقومات تختلف نوعياً عن مكونات الثقافات القديمة، فلابد أن نغير تصوراتنا عن أنفسنا وعن ثقافتنا وعن الثقافة المطلوبة لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة ..

الخلاصة.. أنه لا جدوى من التعليم السائد، فلن يحقق التغيير، ولا أمل في مشاريع التنمية الحالية، فإنها بلا ثمار، لا يمكن للتعليم والتنمية تحقيق الطموحات، إلا بإعادة تكوين ثقافتنا تكويناً جديداً منفتحاً على الآفاق، ومستجيباً لمتطلبات العصر.

مجتمعاتنا أمام خيارين: الأخذ بالمقومات الجديدة للتنمية، أو الإفلاس والانتحار.

وللحديث بقية..

الأكثر قراءة