عائض الأحمد
ليس أكثر من ذلك.. أريد أن أصمت، لن أتحدث أكثر فقد وصلت إلى قناعة، مفادها: سأصمت؛ مللت الكلام وأصبح الحديث يثير فضولي ويدفعني إلى تقصي الحقائق المرهقة في البحث ثم التحليل، وأمام كل هذا انتهي إلى لا شيء.
تأتي عليك أيام تريد أن تكملها صامتًا مستمعًا أليفًا، دون أن تقدم نصيحة أو تنتقد عملًا أو تدمي قلبك بمشاهد اعتادت عليها عينيك أيامًا وشهورًا، ومرة بعد أخرى تتساءل، وماذا بعد؟
الصمت أبلغ من الكلام، والابتسامة الصفراء ذروة النقد، كما هو النظر من تحت الستار آفة وتطفل.
لم أعد أطيق كل هذا، وفصله أفضل من كل فضائله؛ فلن يغنيك بحديث ولن يشمت بك أعداء في تجاهل جامد بلا حراك لن تستنطقه مهما فعلت، فقد بلغ حدا يكفي قرية غارقة في سيل عرم، جرف كل مقدراتها وتركها خربة تقع أسقف منازل أهلها على رؤوسهم دون أن ينبض فيهم دم أو تكسوهم حمرة خجل.
أطبق فمك وتنفس ودع للهواء مخرجًا فقط لتعيش في كنف الصمت وتنطوي تحت شعاره وتتذكر أيام شقاء جارك وموت خالتك وفقدان ابنتها في معركة ذات الألسن، ثمّ تدعو الله أن يبعد عنك هذا السوء ويجنبك ألم مرارته وكأنك لم تتذوقها على مضض، ولكنّها الحياة وفعل الإنسان، يقلب كل يوم صفحة ويفيق على أخرى وينتظر غيرها في يوم قادم. هكذا نحن فإن لم نكن فلن يكون أحد ولن يطيقها سوانا، نحن لها ونرعاها وكلنا علم بأنّها تهوى وتعشق غيرنا!.
أو لم أقل لكم بأنّ الصمت أجمل من أكثر الحديث فإن لم يعد لك المجلس فلا تذهب له أبدًا.
سقى الله الأبيض والأسود، فعندما تعددت الألوان ضعف نظري وخفت سمعي ووهن جسمي وابْيَضَّ شعري، ولم أعد ذاك الهمام الذي يقبل النزال، اكتفيت منه وكفاني غيري حتى نامت أعين الجبناء شفقة وذلة وتماهيًا.
ونحن صغار كنا نسمع فقط ونخاف الحديث فهناك من هو أكبر منا؛ فكنا نكره مجالسهم، وعندما كبرنا عشقنا الصمت وأحببنا حديث من هم أصغر منَّا لعل وعسى أن تحرك فينا براءتهم صمت حديث مضى.
سألني أحدهم أين تجد متعتك الآن، فقلت: "في صمت أمثالك".
ومضة:
لن ترى النور أبدًا؛ فقد خلقك الله أعمى بصر، وأنت لا تملك البصيرة.