كورونا يضع لبنات نظام دولي جديد (2-4)

عبيدلي العبيدلي

يتطلَّب الحديثُ عن النظام الدولي الجديد، الاتفاق أولا وأساسا، على ما هو المقصود بـ"النظام الدولي"؛ كي نتوصَّل إلى نتيجة منطقية تربط بين كورونا والتغيير المرتَقب، والدور الذي يُمكن أن يمارسه هذا الفيروس كي تتوفر عناصر ذلك الانتقال من "الدولي" إلى "الدولي الجديد".

ومن المتوقَّع أن تسلك هذه النقلة، كي تتحقَّق، طرقا مغايرة لتلك التي عهدناها في التحولات التي عرفتها الأنظمة الدولية المتعاقبة عبر تاريخ العلاقات الدولية المدون، وتأخذ أشكالا مختلفة عن تلك التي عهدناها. أول ما نكتشفه هنا هو استخدام كلمتي "عالمي" و"دولي" بشكل متبادل، لدى البعض، في حين نلمس التمييز بينهما لدى البعض الآخر، الذي يفرد للأولى مساحة شمولية تعالج قضايا تسلط الضوء على شؤون تمس العالم برمته، في حين يحصر الثاني كلمة "دولي"، عند الإشارة، فقط، إلى قضايا واهتمامات دولتين أو أكثر.

ولعلَّ من بين أكثر المؤسسات التي حاولت تنميط مفهوم النظام الدولي، والتمييز بينه وبين العالمي هي مؤسسة "راند"، القريبة من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، والتي تعرف نفسها بأنها "مؤسسة غير ربحية تساعد على تحسين السياسات وعملية اتخاذ القرار من خلال البحث والتحليل"؛ حيث يرد في تقرير لها من ترجمة محمد سماحة،  أنَّها تعتبر النظام الدولي هو ذلك النظام، أو النسق الذي "يقتصر فقط على الأنماط المُتّبعة قانونيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا بين الفاعلين الدوليين من شركات، ومؤسسات، وحكومات وأفراد عند التّعرض لمشكلة تَمسّ إقليمًا أو قارّةً"، وعلى نحو مواز. وفي المقابل، ترى "راند" أيضا أن النظام العالميّ، يتخطى الدولي، إلى "آفاق أرحب وأشمل ليتضمّن النيوليبراليّة كنظريّة حاكمة للسياسة الدوليّة، والعلاقات الدوليّة العالميّة، والاقتصاد العالميّ، الذي يُهيمن عليهم جميعًا قطبٌ واحد أو أكثر يفرض أفكاره وتوجهاته على حلفائه، والنّظام العالمي يمتدُّ عبر تاريخ الإنسانية بخطوط عريضة ثابتة، ويضمّ نظامًا دوليًا مُتبعًا، تتغيّر قواعده وتتبدّل وفق الاتّفاق بين الدول، أو بين النظام العالمي وبين السياق الأممي الشامل الذي تمارس فيه مُختلف الدول وظائفها".

لكن، ليس هنا ما يدعو الغوص في المدلول اللغوي، المقصود من كلمة دولي. فيمكن القبول بأن المقصود بأي منهما هو وصف كل ما يجري اليوم من علاقات، تأخذ شكل المحادثات السلمية أحيانا، وتذهب إلى مستوى الصدامات العسكرية أحيانا أخرى، بكل ما يكتنف ذلك من ممارسة ابتزازات سياسية، أو ما يتطلبه من التلويح بتهديدات اقتصادية، بين دولتين أو أكثر؛ من أجل إعادة رسم العلاقات بين الأطراف المعنية إلى معادلة معينة تنظم العلاقات المتوخاة بين تلك الأطراف الضالعة، وانعكاسات ذلك على فضاء العلاقات الدولية، من أجل التأسيس بناء نظلم دولي جديد. عندها، لن يختلف الأمر جوهريا عند استبدال "دولي"، بـ"عالمي"، والعكس صحيح أيضا. وتقرر ذلك محصلة موازين القوى القائمة بين الدول التي تحاول الوصول إلى المعادلة التي تنسق بين مكونات النظام الدولي التي هي بصدد بنائه.

لقد سيطر بناء نموذج نظام دولي على اهتمام الكثير من المؤسسات الضالعة في أبحاث لها علاقة بالموضوع، ومن بين الأبرز فيها: مؤسسة "راند"، التي عكفت عبر سنوات طوال من أجل "إعداد مشروع بعنوان (بناء نظام دولي مستدام) يضم عدة دراسات متنوعة، تهدف إلى فهم النظام الدولي الحالي، وتقييم التحديات التي تواجهه، ومن ثم تقديم توصيات بخصوص السياسات الأمريكية المستقبلية المرجوة تجاه النظام الدولي للحفاظ على المصالح الأمريكية".

لكن يورج سورسن -في كتابه الذي نقله إلى العربية أسامة الغزولي، وصدر ضمن سلسلة "عالم المعرفة"، التي يشرف عليها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي- يلفت إلى أن "النظام الدولي مفهوم مختلف عليه" ويكتفي في مطلع كتابه، قبل أن يغوص عميقا في مدلولات المصطلح، "بتعريف مختصر، يحدد معالم النظام الدولي بأنه، في أحد وجوهه، ترتيب حاكم بين دول، بمشاركة من أطراف أخرى. وهذا هو البعد الدولي. ومن جانب آخر، فللنظام الدولي أيضا بعده الداخلي المتصل بالجوانب الرئيسة للشروط الاجتماعية – السياسية داخل الدول".

وهناك الكثير المشترك بين ما يلخصه سورسن وما تأخذ به مؤسسة "راند الأمريكية"، التي تعتبر النظام الدولي عبارة عن "مجموع المعايير، والقوانين، والمؤسسات التي تُنظّم العلاقات بين اللاعبين الأساسيين من الدُولِ الفاعلة على الساحة الدوليّة. (ويقوم النظام) على بناء هيكليّ مُستقر من العلاقات بين الدول، والتي تتضمّن ترابطًا بين بعض أجزاء هذه الدول، بما فيها الأحداث العرضيّة الحاصلة على ساحة كلّ دولة، وتأثيرها على ما يحوطها من دولٍ أخرى".

ولعل ما يميز نظامًا عن آخر، ويمده بالقدرة على اكتساب صفته الفارقة، هي "استمراريته، واتّساق بنائه ووحدته الأمر الذي يُفرّقه عن الفوضى والعلاقات العشوائيّة".

هناك خلاف بشأن الجذور التاريخية لما يعرف اليوم باسم النظام الدولي. فهناك من أمثال الكاتب يوسف رزين، الذي يربط بين انبثاق مفهوم النظام الدولي، و"انهيار الإقطاع في أوروبا، مدشنا بذلك عهد الدولة القومية المتحررة من سلطان الكنيسة، وبروز الدولة القومية الحديثة؛ مما مهد الطريق نحو قيام النظام الدولي الأوروبي الذي تبلورت معالمه في معاهدة ويستفاليا عام 1648، والتي انهت الحروب الدينية في أوروبا، و من ثم ابتدأت حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية"، في حين يذهب الكاتب شاهر إسماعيل الشاهر إلى ما هو أبكر من ذلك، حيث يشير إلى أن مفهوم النظام الدولي، ليس "فكرة جديدة إنما تمتد جذورها إلى فلاسفة المدرسة الرواقية Stoic–Philosophy في اليونان القديمة، إذ طرحوا فكرة الدولة العالمية والقانون العالمي. ويركز التحليل للسياسة الخارجية من منظور النظام الدولي اهتمامه على المستوى الكلي للتحليل Macro Level of Analysis، وينصب الاهتمام الرئيس على التغييرات في البيئة الدولية التي تنفذ فيها الدول سياستها الخارجية".

أما الموسوعة السياسية: (اضغط هنــــا للموسوعة)؛ فتذهب إلى القول بأن "العلاقات الدولية بشكل عام لا تخضع لقانون مكتوب أو نظام رسمي ينظم العلاقات ما بين الدول، إنما تسبح هذه العلاقات في بيئة تحدد من قبل الفاعلين الدوليين، ولا يقتصر مصطلح الفاعلين الدوليين على الدول بحد ذاتها، وإنما يتخطاها ليصل إلى المنظمات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات، بالإضافة الى الاشخاص الذين يلعبون دورا في الساحة الدولية... إن فكرة النظام الدولي ليست بالفكرة الجديدة فقد دعا دانتي الليجييري Dante Alighieri عام 1315 بضرورة توحيد السلطة والقضاء على انتشار مظاهر الفوضى عن طريق قيام حكومة عالمية تهدف إلى إنهاء التقسيمات القائمة التي أصبحت سبباً للصراعات والنزاعات المختلفة".