معضلة كورونا أمام المحاكم

 

د. طه زهران

محامي بالمحكمة العليا

tahazhran@gmail.com

كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول آثار جائحة كورونا العالمية على النواحي الصحية والاقتصادية والسياسية بل والاجتماعية والنفسية.

ولكن يبدو أنَّ آثار كورونا لن تقف عند هذا الحد بل سيكون لها آثار عديدة على كافة العلاقات القانونية والالتزامات العقدية. فإلى أي مدى يُمكن أن تُؤثر جائحة كورونا على شريعة المتعاقدين والتزاماتهم.

 من الناحية القانونية يُمكن اعتبار تلك الجائحة بمثابة قوة قاهرة كما يُمكن اعتبارها ظروفاً طارئة، فجميع شروط كلا النظريتين متحققة تماماً من حيث كون جائحة كورونا حادثاً عاماً غير متوقع ولا طاقة لأحد منِّا على دفعه أو منع حدوثه أو حتى منع آثاره وتداعياته.

ويُمكننا ببساطة التفرقة بين آثار تلك الجائحة على العلاقات القانونية باعتبارها قوة قاهرة وبين آثارها كظروف طارئة وذلك بالنظر إلى مدى تأثيرها على الالتزامات العقدية لطرفي العلاقة القانونية. فلو أدت إلى استحالة تنفيذ الالتزام كنَّا بصدد قوة قاهرة، أما لو كان تنفيذ الالتزام ممكناً ولكنه سيؤدي إلى خسائر فادحة  فنحن بصدد نظرية الظروف الطارئة.

 وعليه فإنَّ تطبيق نظرية الظروف الطارئة يكون في الحالة التي يصبح فيها تنفيذ الالتزام مرهقاً لا مستحيلاً.

فمتى أصبح تنفيذ الالتزام مستحيلاً، فإنِّه لا محالة ينقضي تماماً. وهذا ما تقتضيه طبائع الأشياء، إذ لا التزام بمستحيل. وهذا ما نصت عليه كافة تشريعات الدول العربية ومنها نص المادة (339) من قانون المعاملات المدنية العماني: "ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء به أصبح مستحيلاً عليه لسبب أجنبي لا يد له فيه ". ويخلص من هذا النص إلى أن هناك شرطين حتى تتحقق استحالة التنفيذ وهما: أن يصبح تنفيذ الالتزام مستحيلاً. وأن ترجع هذه الاستحالة إلى سبب لا يد للمدين فيه كما هو الحال في ظل الظروف الراهنة عندما يصل وصفها إلى درجة القوة القاهرة.

أما نظرية الظروف الطارئة فتفترض وجود عقد يتراخى وقت تنفيذه إلى أجل أو إلى آجال. ويحل أجل التنفيذ لهذا العقد، فإذا بالظروف الاقتصادية التي كان توازن العقد يقوم عليها وقت تكوينه قد تغيرت تغيراً فجائياً لحادث لم يكن في الحسبان، فيختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالاً خطيراً.

وقد نصت قوانين الدول العربية على وجوب تطبيق نظرية الظروف الطارئة في تلك الحالات ومنها نص المادة (159) من قانون المُعاملات المدنية العماني: " إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وقت التعاقد، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة؛ جاز للمحكمة تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن ترد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك".

فإذا تحققت شروط نظرية الظروف الطارئة في عقد من العقود وثبت تأثر المتعاقدان وتحقق الخسارة المرهقة لهما وتم اللجوء إلى القضاء فقد وجب تطبيق الجزاء المترتب على تلك النظرية. وهنا يتناضل طرفا العقد ليثبت كل منهما حجم خسائره تجاه الآخر، ويدفع كل منهما مسؤوليته عن تلك الخسائر بأن السبب يرجع إلى الحادث الفجائي العام وأنه لا دخل له في ذلك، كما هو الحال في منازعة المالك والمستأجر حول دفع الأجرة لمحل قد تمَّ غلقه ووقف نشاطه بسبب الجائحة، وكما في المنازعة العمالية بين العامل وصاحب العمل حول مطالبة العامل بالأجر الذي لم يتحصل عليه بسبب غلق المنشأة ووقف نشاطها، وكما هو الحال في عقود المقاولات وعقود التوريدات وعقود النقل والاستيراد والتصدير والوكالات التجارية وغيرها من العقود الملزمة للجانبين والتي يحتاج تنفيذها إلى مواعيد معينة.

وبتطبيق نظرية الظروف الطارئة على المتعاقدين لا ينقضي التزام المدين لأنَّ الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو لأنه مرهق، وبذلك تكون الحاجة ملحة لإعادة التوازن بين الالتزامات المتقابلة للمتعاقدين فيرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطيق المدين تنفيذه، يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق. ومن ثمَّ يكون المجال واسعاً أمام القاضي لإعمال سلطته التقديرية في تقدير حجم الخسائر وتوزيعها بين الطرفين بما يُعيد التوازن في العلاقات العقدية بينهما، ولأهمية هذا الموضوع واتساع نطاق البحث فيه فقد أصدرت كتاباً شارحاً لكافة التفاصيل في هذا الشأن تحت عنوان (آثار كورونا على شريعة المتعاقدين) وهو ماثل للطبع وسيتم نشره بالوسائل المُتعددة لتعم به الفائدة، أسأل الله أن ينفع به.

وحتى ذلك الحين يمكنكم التواصل عبر البريد الإلكتروني للحصول على استشارة مجانية حول كافة آثار جائحة كورونا على المعاملات القانونية.

أسأل الله أن يرحم كل ضحايا البشرية الذين فقدوا أرواحهم الطاهرة البريئة في خضم تلك الجائحة المشؤمة.

وأن يرضى عن كل المرابطين في بيوتهم وحجورهم صابرين محتسبين الأجر من الله حتى يرتفع البلاء وينقشع الظلام مستبشرين بقول الحق تبارك وتعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".