القيادة (2)

 

 

مؤسسة صناع القادة

بدأنا عرض الفهم والصور التي تُمثلها القيادة من خلال مقالنا السابق، مُعرِّجين على الأصل اللغوي والتكوين الإنساني للقائد الباحث عن الكمال البشري، ومن هنا نبدأ رحلة البحث للوصول إلى الشكل القيادي الأمثل والتفرعات الشكلية الأنسب.

إنَّ عملية التشكيل والصنع لا بد أن تتم على مختلف التكوينات البشرية (النفس، الجسد، الروح)؛ فلا يمكن أن تصل إلى الجاهزية القيادية إلا بعد التهيئة المناسبة لك على المستوى المادي واللامادي، ولا يشترط أن تمر هذه المكونات بالتهيئة والبناء بشكل متواز؛ حيث يحدث كثيرا أن يتم تهيئتك جسديا ثم يتبعها التهيئة النفسية ثم (بما تحتاجه "ثم" من زمن وترتيب) التهيئة الروحية.

وتصف الميتافيزيقيا اليونانية قادتها وأبطالها بأجساد نتجت عن اختلاط طاقة الآلهة بجسد الإنسان، ليعبروا عن عظيم ما كانوا عليه، وأنهم بذلك كانوا بذوات إنسانية وروحانية، مكنت لتقود وتتحمل أعباء البشر وتدافع عنهم، ولم تكُن الحضارة الفارسية عنهم ببعيد؛ فهناك من يرى أن ذا القرنين قد تكون شخصية فارسية وهو الملك "كورش"، الذي كانت له من الصفات الجسدية والعقلية والروحية ما مكنه من حكم الأرض أو جلها من شرقها إلى مغربها، وهكذا الحال عند التعرض لشخصية "ألكسندر" فالرومان يصفونه ويصفون غيره من القادة بأنه صنع بمثقف حاد لصقل مهاراته الجسدية وشخصيته القيادية التأثيرية، ويعتبر لدى البعض أنه مِمَّن حكم كثيرا من الأراضي والتي أسس فيها عواصم تحمل اسمه حتى الآن (الإسكندرية) نسبة إلى الإسكندر العظيم.

لعلَّ فهم البناء الجسدي وتهيئته أمر سهل التصور والتنفيذ، إلا أنَّ البنائيْن النفسي والروحي هما أكثر غموضا وأصعب وصولا، خاصة إذا لم يتوفر المرشد العارف بهما المستشرف لهما؛ لذا كان لزاما أن نبحث جاهدين في الخوض في التجارب التاريخية القريبة والبعيدة لفهم ووصف، بل ووضع برنامج قابل للتطبيق من أجل الصناعة اللامادية للقائد المثالي.

ومن أفضل النماذج التاريخية البعيدة نسبيا هما النموذجان الموسوي واليونسي (سيدنا موسى وسيدنا يونس)؛ حيث إنَّ لهما صناعة متقاربة جدا في البناء النفسي والروحي، ومن يفهم هذه التربية ويخرج منها بنموذج تربوي معاصر لا شك أنه قادر على بناء ذاته وغيره.

... إنَّ المآثر التاريخية الدينية والمخطوطات القديمة والكتابات والرسومات الجدرانية على المعابد الفرعونية عكست الاهتمام البالغ بالمكونات الإنسانية من جسد ونفس وروح؛ حيث تجد الترميز الجسدي في أشكال حيوانات ضارية تعرف بقوتها كالأسود والكلاب، ويتمثل الاهتمام النفسي في استخدام رؤوس حيوانات تعرف بالحدة والحكمة كالطيور والسباع، ولا يخلو الأمر من تلميحات روحية من خلال الاهتمام الكبير بالتواصل بالأجرام السماوية المختلفة، بل والتصاوير لكائنات غير معروفة في سلسة المخلوقات الأرضية.

هذه البيئة الخصبة التي تربَّى فيها سيدنا موسى توحي بأنه تم تهيئته بشكل عالي جسديا ونفسيا، حتى إنَّه وبوكزة واحدة استطاع قتل رجل وهذه إشارة مهمة لقوته الجسدية نجدها في مختلف الكتب السماوية والسير؛ وأهمها على الإطلاق: وصف الفتاة له أمام أبيها حين قالت: "إن خير من استأجرت القوي الأمين"، إلا أنَّ سيدنا موسى قد تربى في قَصرٍ يملؤه الترف في ذات الوقت، وهذا الأمر يولد الحاجة إلى "سنفرة نفسية" من نوع آخر يرى فيها الإنسان معانِي التقشف وشظف العيش، لا رفضا للخير والثراء، ولكن النفس التي لا تذوق كل حال لا تقوى على اتخاذ القرارات الحاسمة عند قلة الموارد وتحت وطأت الضغوطات المعيشية.. وهنا لا بد لنا من وقفة.

يمرُّ العالم اليوم بأزمات اقتصادية وصحية واجتماعية وتعليمية (جائحة كورونا)، يختبر من خلالها الكثير من الإدارات الحكومية والعسكرية؛ لذا سنرى بعد زوالها ظهور بعض الأسماء التي استطاعت أن تتعامل معها بقيادة حكيمة سليمة كما أنها ستصقل قيادات أخرى بدروس مستفادة لم تعيها من قبل؛ لأنها لم تذق وتجرب معنى العمل تحت الضغوطات بمختلف مجالات الحياة، وقد تنسَى وتترك إدارات تعثرت في التعامل مع هذه الحادثة؛ لأنها لم تكن مهيأة للقيادة والريادة؛ فلا بد من إحلالها بمن هو أجدر وأقدر.

ولربط الحال بالحال، فإننا ننتقل إلى سيدنا يونس (ذو النون) في المرحلة النفسية التي توجب فيها صقل ذاته ببطن الحوت؛ فالعزلة النفسية كانت ولا تزال أهم التدريبات القيادية التي لا يطيقها إلا أعظم القادة وأنجحهم؛ فهي الحالة الانتقالية بين التسامي النفسي الروحي أو الترسب المادي؛ فالوعي بن العزلة والسجن لا يكونان إلا للجسد أما النفس والروح فهما أقدر على الخروج من مادة الجسد وحيزه إلى الأفق الأعلى والكون الأوسع، وأن نقطة الذات لزمت سيدنا موسى كذلك أن يتبع الحوت الذي نسيه الفتى فاتخذ سبيله في البحر عجبا، هذه الرمزية المتكررة بين حوت موسى وحوت يونس رجع بعدها كليهما بقيادة حديثة تكسوها شجرة اليقين، وهي أعلى مقاصد الثقة بالذات والخالق.

الحوت أو الكهف الذي تلجأ أو تدفع إليه قد يتخذ عدة أشكال وحالات وقد يستغرق ساعات وقد يستغرق سنوات، كل هذا تقديره للذات التي قررت جاهزيتك ومتى ما احتاجت ذاتك لهذه الرياضة اللاجسمانية، والتي تمَّت صياغتها في كل الأديان المشهورة من خلال الخلوات والصلوات، والتي قد لا تتبين قيمتها التغذوية لذواتنا القيادية إلا في حالات معدودة؛ لذا نجد اليوم بعض القيادات التي كتبت أو تحدثت عن جدولها الروتيني، تشير إلى وجود حصة مخصصة إلى الخلوة مع الذات لتتنفس خارج الجسد والمشاغل الحياتية؛ ليكون لديها وعي أوسع ونظرة أشمل لكل المجريات من حولها، وهذه سمة قيادية أصيلة تحتاج إلى جهد وتدريب؛ لأنها حالة من الوعي العميق والاستقرار والرضا مع الذات.

لذا؛ ولصناعة قيادية رصينة لا تنسى أن تتحلَّى بجسد سليم من خلال الغذاء والنشاط الصحي الملائم، وتدريب نفسي عميق من خلال القراءة والبحث والتفكر والتعرض لمختلف السيناريوهات النفسية والخوض في تجارب تطلب جهدا فكريا وجسديا في ذات الوقت، ولو كانت على شكل محاكاة لحالات غير اعتيادية من الضغط والتمحيص، ولا تبخل على ذاتك بالوصل الروحاني الأعظم مع الذات النورانية الإلهية؛ لتكتمل دائرة الصنع والتكامل حول نقطة القيادة والخلافة الحقيقية.

 

* (صناع القادة يصنعون الفرق)

تعليق عبر الفيس بوك