في منازلنا جُنود

عائض الأحمد

عندما تسمع هذه الكلمة، يتبادر إلى ذهنك -وهذا هو الطبيعي- أصوات القذائف، وهدير الطائرات، وساحة معركة لا تُبقي ولا تذر.

لن يأتي في مخيلتك أبدًا تلك السيدة وذاك السيد الذي يقوم على أرواح الناس، يخرُج يوميًّا في ساعة محددة مهرولًا يقصد مشفاه، واهبًا روحه وعلمه وما عاهد الله عليه تجاه وطنه ومجتمعه، وهو يعلم أنه ربما لن يعود لمنزله وأبنائه وأهله، وهو ذات الشخص الذي خرج من ساعات مضت أو أيام كان فيها هو الجندي والقائد ورسول الرحمة لمن يحتاجه ويمد يد العون له.

كم في منازلنا من هؤلاء.. يمرُّون هكذا دون أن نراهم أو نلتفت لهم، ثم أصبحوا الآن هدفا لنا نطلب لهم الدعاء بأن يسدِّد اللهُ خطاهم على الخير، وأن ينفع بهم الأمة، وأن ينجلي بهم ما حل بها.. عاجلًا غير آجل.

في أوقات المحن، لن تستنجد إلا بمن تثق به، وهؤلاء الرجال والسيدات هم أهل لها؛ يقدمون أعز وأشرف ما يملكون دون أن يشعروك بما تحمل أجسادهم وعقولهم من معاناة؛ لعلمهم بواقع الامر، لكنهم ملائكة رحمة ينشرون السعادة دون أن ينتظروا رد جميل أو إحسان.

وإن كُنا مُنصفين عادلين، فهناك أصحاب أعمال آخرين لبُّوا نداء الإنسانية، كل في مجاله، دون خوف أو تردد، يصلون الليل بالنهار لأولئك المحتاجين لهم، كل فيما سخر له حسب نظام يتبعه الجميع.

فكم هو رائع ما نشاهده من تضحيات وسمو.

يقول الإمام الشافعي:

"جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي

وَمَا شُكْرِي لهَا حمْدًا وَلَكِن

عرفتُ بها عدوّي من صديقي".

فمن فضائل الأزمات أنها تزيل عن ناظر كل حصيف ما كان يمرر في وسائل الإعلام وغيرها.. وليس من يتحدث أفضل حالًا من غيره فيما كنا نتغني به ونردده حتى وصلنا إلى الاعتقاد الجازم بأننا أقل من هؤلاء، ثم كشفت لنا أزمة عابرة بإذن الله، بأننا نتفوق عليهم بمراحل فيما نملك من مقومات بشرية وتقنية وتنظيمية، هذا غير التعامل الإنساني الرائع مع الإنسان أيًّا كان ومن أي بلاد.

من سيُصدقك لو قلت بأنَّ بعض دول العالم الأول كما كنا نصفه أصبحوا قراصنة وقطاع طرق، بل البعض منهم فضَّل المال على كرامة الإنسان، واستباح كل معاني الإنسانية من أجل أهداف كان البشر في نهاية سلمها.. وآخر ما يمكن التفكير فيه الآن.

"من يظن أن العالم سيعود كما كان فهو واهم".. قواعد اختفت، وأوراق كشفت، شاهدها القاصي قبل الداني.

الحقيقة الجلية التى لا تقبل الشك أنَّ دول الخليج تعاطتْ مع الإنسان ثم الإنسان وعملت من أجله، وهذه صفحة بيضاء تدل على كرامة الإنسان وحفظ حقوقه، دون النظر إلى أي شيء آخر، وكأنها تقول الحضارة إنسان وليست بنيانًا.

-------------------------

ومضة:

تعلمتُ أن الحقيقة تختلف كثيرًا عن الواقع، هناك شيء ما.. دائمًا لا تستطيع مشاهدته.

والحقيقة الأخرى هى مقدار ما تحمله من إنسانية.