أين الإستراتيجية الإعلامية؟

حاتم الطائي

 

جلالة السلطان يُؤكد أهمية النزاهة والمساءلة والمحاسبة.. والإعلام شريك في تحقيق هذه الأهداف

"صندوق تنمية الإعلام" كان مُبادرة من السلطان قابوس العام الماضي.. لكنه لم ير النور إلى الآن

غياب إستراتيجية إعلامية حقيقية يهدر جهود التنمية ويُحبط التطلعات المستقبلية

 

مما يُحسب لمؤسسات الدولة خلال مسيرة النَّهضة المُباركة أنَّها رسَّخت لآليات عملٍ واضحة المعالم، ورؤى تطويرية تضع نصب أعينها أهدافاً مُحددة وغايات مُعينة توفر لها ما يلزم من آليات ووسائل للوصول إليها، سواء عبر خُطط قصيرة الأمد، أو إستراتيجيات طويلة الأمد، ويُمكن تلمس ذلك في الخطط الخمسية المُتعاقبة التي أطلقتها الحكومة ونفذتها المؤسسات والهيئات المعنية، فضلاً عن رؤية "عمان 2020"، وأيضًا وخلال المرحلة المُقبلة الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، مع استمرار عمل هذه الآليات في ظل نهضتنا المُتجددة.

لكن في واقع الأمر ومما يُؤسف له، أننا لا زلنا نفتقد لرؤية إستراتيجية إعلامية، ترسم لنا ملامح الطريق نحو التميز الإعلامي، وتضبط بوصلة الأداء الإعلامي، لمؤسسات الدولة أولاً، ثم المؤسسات الصحفية والإعلامية ثانياً.

تنمية الإعلام

ويُفاقم من هذه الأوضاع ما تمر به المؤسسات الصحفية منذ سنوات من أزمة مالية طاحنة، دفعتنا ودفعت غيرنا من المؤسسات الصحفية إلى اتخاذ إجراءات قاسية لمُواجهة ذلك التحدي، فيما أغلقت صحف أبوابها في وجه الصحفيين، وكُتب الفصل الأخير في مسيرة صحف أخرى! ولذلك ومع اشتداد أزمة الصحافة، كان للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- موقفًا شديد الأهمية وبالغ الدلالات؛ حيث دعا- رحمه الله- لعقد لقاء مُباشر مع عدد من رؤساء التحرير والصحفيين والكُتاب، ولقد تشرفتُ بحضور هذا الاجتماع مع جلالته في قصر بهجة الأنظار بتاريخ 23 يونيو 2019؛ حيث أعلن جلالته- طيب الله ثراه- عن تخصيص 10 ملايين ريال لإنشاء "صندوق تنمية الإعلام"، وقد شرع جلالته بالفعل في إجراءات الصندوق، وطلب من الإعلاميين الحضور وقتذاك تولي مسؤولية إدارته واقتراح هيكله التنظيمي ورؤيته العامة وأهدافه المُتوخاة. لكن القدر لم يُمهل جلالته- رحمه الله- لكي يرى هذا الصندوق النور، وتعطَّل المشروع منذ ذلك الحين، على الرغم من أهميته القصوى في خدمة مسيرة إعلامنا الوطني بما يضمن أن يكون هذا الإعلام عوناً للدولة ومؤسساتها في أداء واجبها وإيصال رسالتها للداخل والخارج.

لكن أعود إلى السؤال الرئيسي: أين الإستراتيجية الإعلامية؟

فما من مؤسسة أو هيئة تستطيع القول إنِّها تملك رؤية إستراتيجية إعلامية تُخطط مسارها في التعاطي الإعلامي مع المجتمع، سواء عبر وسائلها الخاصة في التواصل مع المُجتمع، أو من خلال وسائل الإعلام، وعلى رأسها الصحف، إلى جانب الإذاعة والتليفزيون، وحتى المواقع الإلكترونية، وهذه الأخيرة الحديث عنها مليء بالشجون، سنتطرق إليها لاحقًا في هذا المقال.

والأداء الإعلامي لأيِّ دولة يُمثل عنصرًا فاعلاً في سياستها الداخلية والخارجية، فضلاً عن كونه أحد أبرز الأدوات المُؤثرة في المنظومة الاقتصادية، وتبني مؤسسات الدولة لرؤية إستراتيجية وسياسة إعلامية واضحة المعالم، من شأنه أن يُعزز من معايير الشفافية ويُرسخ جودة الأداء المؤسسي، ويُعلي من شأن الدور التنويري والرقابي للإعلام. فدور وسائل الإعلام ليس فقط تلقي البيانات الرسمية من المؤسسات ونشرها دون تغيير، كيفما يعتقد- مع الأسف- الكثيرون، وخاصة العاملين في دوائر الإعلام بتلك المؤسسات. والإعلام يُطلق عليه "السلطة الرابعة"، من منطلق أنَّ السلطات في أي دولة ثلاث: التنفيذية والتشريعية والرقابية، في حين أنَّ الإعلام هو السلطة الرابعة، التي ينبغي أن يكون دورها الأدبي نشر الوعي المُجتمعي وتعزيز الرقابة على مؤسسات الدولة. فإذا نظرنا إلى الصحف ووسائل الإعلام في الغرب- على سبيل المثال- نجد أنَّ تحقيقًا استقصائياً واحداً قادر على إقالة وزير أو مُحاسبة مسؤول رفيع في الدولة، وأنَّ ثمة حوارا صحفيا جريئاً مع مسؤول بالدولة يمكنه أن يردع من تُسول له نفسه الاعتداء على مُقدرات الوطن ومكتسباته. لكن في ظل غياب الرؤية الإستراتيجية للإعلام لن يتمكن الصحفيون ولا الصحف أو أي وسيلة إعلامية من القيام بدورها الطبيعي، والمأمول من المُجتمع في الوقت نفسه، بل ستظل محلك سر، لا تُراوح مكانها، وتتحول هذه الوسائل إلى منصَّة لنشر الأخبار التي تتلقاها عبر الوكالة الرسمية أو من خلال رسائل البريد الإلكتروني الواردة من الوزارات والهيئات وحتى شركات القطاع الخاص!!

غياب الإستراتيجية

الأمثلة على غياب إستراتيجية إعلامية عديدة ولا يتسع المقام لذكرها، لكني سأسلط الضوء على القليل منها؛ المثال الأول: أن حدثاً محلياً (مؤتمر- ندوة- اجتماع رفيع المستوى) يتم تنظيمه دون أن يُفكر القائمون عليه في التواصل مع وسائل الإعلام، بل وحينما يعلم الصحفيون به، يُقال لهم إنَّ الصحفيين غير مدعوين لهذا الحدث! هنا أجد افتقارا- بل انعدامًا- لرؤية إعلامية واضحة المعالم، من قبل بعض مؤسسات الدولة، والجهة التنظيمية لقطاع الإعلام لا تُحرك ساكناً مع هكذا أداء مُخيب للآمال ومُحبط للطموحات. ولنا أن نتخيل أن تُرسل جهة رفيعة المستوى في الدولة دعوة إلى الصحف لإجراء تغطية صحفية وتشترط أن يكون الحاضر "مصور صحفي" فقط، ثم تُصدر بياناً مقتضباً تقول فيه إنه تمَّ مناقشة جدول أعمال الاجتماع واستعراض المستجدات واتخاذ ما يلزم من إجراءات حيال الموضوعات التي تمَّ طرحها في الاجتماع!! لكن ما هي تفاصيل الاجتماع وما هي الموضوعات التي جرى مُناقشتها وما هي التوصيات التي طرحها المجتمعون، لا أحد يعلم سوى المجتمعين! وفي المُقابل، تسعى الجهة المنظمة للحدث أن تنشر وسائل الإعلام التغطية الصحفية كما أعدها موظفو الإعلام لديهم أو الوكالة الإعلانية الدعائية التي تعاقدوا معها. نحنُ هنا أمام نموذج سلبي في التَّعاطي مع وسائل الإعلام، وعدم معرفة بدور هذه الوسائل في نشر الوعي وتبصير المجتمع بأدوار ومهام ومسؤوليات مختلف جهات ومؤسسات الدولة.

المثال الثاني: يتداول الرأي العام معلومات- أو لنقُل تسريبات- بشأن قضية ما، بينما تلتزم مؤسسات الدولة الصمت وترفض التعقيب أو إصدار بيان يُجلي الحقيقة ويدحض الشائعات، وعندما يسعى الصحفيون إلى تقصي الحقائق لأجل نشرها، يرفض جميع المسؤولين الحديث إليهم، إذا ردوا من الأساس على اتصالات الصحفيين، وربما إذا نجح الصحفي في اجتهاده قد يُعرض للمضايقات أو المساءلة القانونية!! وهذه الحالة أشدُّ خطورة من "الأخبار الجاهزة" التي ترِد للصحفيين دون ترك المساحة لهم للقيام بعملهم في التغطية الإخبارية؛ إذ إنَّ غياب المعلومات وضعف التفاعل مع الرأي العام من شأنه أن يُفاقم الشائعات، لتتحول إلى معلومات "مؤكدة" لمن ينشرها ويتداولها، فماذا سيكون الحال إذا كانت القضية تمس الأمن الاجتماعي أو مصالح الدولة العُليا؟!!

المثال الثالث: المواقع الإخبارية الإلكترونية؛ وهذه تنقسم إلى فئتين؛ الأولى: مواقع تتبع مؤسسات صحفية راسخة، بينما الفئة الثانية مواقع إخبارية يُديرها هُواة ولا تتبع أي مؤسسة صحفية، ومن المُؤسف أنَّ قانون الإعلام الحالي لا يتطرق إلى هذا النوع من المواقع من أجل تنظيم عملها أو الاعتداد بها كمؤسسات إعلامية إلكترونية، قادرة على التأثير في المجتمع. كما إن مؤسسات الدولة وهيئاتها وحتى شركات القطاع الخاص، لا تعترف بهذه المواقع، وفي أحسن الأحوال يلجأون إليها حين يريدون الترويج لخبر ما أو نشر مقال!!

وبالتالي لا بديل عن وضع رؤية إستراتيجية إعلامية مُتكاملة الأركان، وأحد أهم هذه الأركان المؤسسات الصحفية والصحفيون أنفسهم، وعندما أقول الصحفيون أعني المُمتهنين للصحافة عن حق، وليس العاملين في دوائر الإعلام والعلاقات العامة، فهؤلاء يُناط بهم أدوار ومسؤوليات مختلفة تمامًا عن الصحفي الذي يعمل في صحيفة أو قناة تليفزيونية أو محطة إذاعية أو موقع إلكتروني. ويتعين على الرؤية الإستراتيجية للإعلام أن تتضمن آليات التواصل بين الصحفي والمسؤول، وإلزام المسؤول بالرد على استفسارات وتساؤلات الصحفيين، لأنها تعكس في الأساس نبض المجتمع وتطلعاته، والإدراك بأنَّ الصحفي لا يتدخل في عمل أي مؤسسة أو جهة، وإنما هو ساعٍ إلى الحقيقة، ويجتهد لنشرها وتبصير المجتمع بها، وهنا نُذكر بأهمية إيجاد تشريع يُتيح حرية تداول المعلومات وتأكيد الحق في الحصول على المعلومات، كما هو الحال في الدول المتقدمة، علاوة على إصدار قانون الإعلام الذي طال انتظاره منذ عقد تقريبًا!

الإعلام والنزاهة

لقد أكد الخطاب السَّامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- ضرورة تحقيق النزاهة بل والسهر عليها عندما قال جلالته: "إنَّ بناء الأمم وتطورها مسؤولية عامة يلتزم بها الجميع ولا يُستثنى أحد من القيام بدوره فيها، كل في مجاله وبقدر استطاعته (....) وهذا ما عقدنا العزم على إرسائه وصونه؛ حتى نصل للتطور الذي نسعى إليه، والازدهار الذي سنسهر على تحقيقه، والنزاهة التي لابدّ أن تسود كافة قطاعات العمل وأن تكون أساساً ثابتاً راسخاً لكل ما نقوم به". إذن المقام السامي- أيده الله- يتحدث عن ضرورة أن تسود النزاهة كافة قطاعات العمل وأن تكون الأساس الثابت والراسخ، وهذا يعني- كما يُمكنني فهمه- أن رأس الدولة العُمانية لن يسمح بأيِّ أداء لا يقوم على النزاهة كأساس راسخ، وأن جهود مكافحة الفساد أينما وُجد ستكون بالمرصاد لأصحاب النفوس الضعيفة ممن تنازلوا عن نزاهتهم مُقابل حفنة من الأموال أو العقارات. ومما يُؤكد هذا التوجه السامي في هذا العهد الجديد الميمون بإذن الله تعالى، أنَّ جلالته ذكر في الخطاب عزم الدولة على إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وحوكمة الأداء المؤسسي وتطبيق النزاهة والمساءلة والمحاسبة، وهذا يعني أيضاً أن لا أحد سيكون خارج نطاق المساءلة والمحاسبة، وبعبارة أخرى أتوقع أن نرى خلال الفترة المُقبلة تطبيقاً عملياً لقاعدة "من أين لك هذا؟"، وسيتم مُحاسبة أي مؤسسة أو مسؤول لا يؤدي الدور المنوط به.

في ظل هذه التوجيهات السامية بتعزيز النزاهة والمساءلة والمحاسبة، ينبغي أن تقوم وسائل الإعلام بدورها المُجتمعي، وهو دور لا غنى عنه، وسيخدم مسيرة التنمية الشاملة، ويُعزز من نهضتنا المتجددة، ويحقق تطلعات المواطن، ويغرس المزيد من الثقة في مؤسسات الدولة وأدائها. وعلى مؤسسات الدولة أيضاً أن تُدرك هذا الدور الرائد، وأن يكون الإعلام أحد أبرز الأدوات الرقابية بجانب الجهات المعنية، مثل مجلس عُمان وجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، وهنا لا أتحدث- بكل تأكيد- عن إقحام الإعلام بين هذه المؤسسات المرموقة والمشهود لها بالكفاءة والمهنية، لكن أن يكون للإعلام دور في الكشف عن مواطن الخلل أو الضعف في أي قطاع كان، وأن يكون منبرا للنقد البناء الذي يدعم تقدم مسيرة النهضة المباركة.

وأخيرا.. إن دور وسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، أساسي وضروري في تقدم الأمم ونهضتها، ومن ثم وتماشياً مع متطلبات المرحلة والتوجهات الجديدة، فإنَّ الإعلام مُطالب بالانتقال من مرحلة الإعلام التنموي الذي لا يُسلط الضوء سوى على المُنجزات، إلى مرحلة الإعلام البنّاء، الداعم لجهود تعزيز النزاهة والمساءلة والمحاسبة، وعليه يجب تهيئة البنية التشريعية اللازمة لذلك، وتغيير النظرة التقليدية للإعلام، فضلاً عن تحديث رؤية المسؤولين إلى الصحفيين ودورهم في المجتمع.