فن الحروب الإعلامية ومعارك العصر

 

 

د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي **

في زمن تُدار فيه العقول قبل الحدود، صار الإعلام ساحةً حاسمة لا تقلّ خطورة عن ميادين القتال. من يُهملها أو يُقلل من قيمتها يخسر، ومن يُحسن إدارتها ترجح كفته ويعلو صوته.

لم تعُد الهزائم تُقاس بعدد الدبابات التي تم تدميرها أو الأراضي التي تم خسارتها؛ بل تُقاس اليوم بمدى ثقة الجماهير، وبقوة السردية الوطنية، وبقدرة الدولة على حماية سمعتها من التشويه المُنظّم. كم من قضية عادلة فشلت في انتزاع حقوقها لأن أصحابها تجاهلوا أن الرأي العام هو الحكم الأخير، وأن الخطاب المؤثر يُحرّك المؤسسات كما يُحرّك الجماهير. الإعلام لا ينقل الوقائع فحسب؛ بل يصوغ المعنى، يُعيد ترتيب الأولويات، ويمنح الشرعية أو ينزعها.

في عالم اليوم، تتكئ الحرب الإعلامية على أدوات تقنية ومعرفية غير مسبوقة: منصات اجتماعية لحظية، تحليل بيانات ضخمة، ذكاء اصطناعي لصناعة الرسائل الموجّهة، وبث مُباشر يخلق واقعه الخاص. إنّها بيئة تُكافئ السرعة والدقة والموثوقية، كما تُعاقب التردّد والارتباك. هنا تتحوّل الصورة إلى حُجّة، والعنوان إلى موقف، والهاشتاغ إلى موجة قادرة على جرّ الأحداث إلى مسار جديد. إذا لم تُدِر الدولة هذه الديناميكية بحرفية، فسيُديرها خصومها ضدّها.

من هنا كان بناء كادر إعلامي محترف ليس ترفًا، بل ضرورة أمنية واستراتيجية. حيثُ المطلوب إنشاء منظومة إعلامية شاملة: غرف تحليل ورصد وإنذار مُبكر، تدريب مستمر على إدارة الأزمات الرقمية، متحدثون مُؤهّلون يملكون لغةً وبيانًا وأرقامًا، وبروتوكولات تضمن سرعة الاستجابة دون التفريط بالمصداقية. كما يلزم تسليح المؤسسات بالتقنيات اللازمة- من منصات استماع اجتماعي إلى أدوات تحقق الحقائق وإنتاج بصري عالي الجودة- لكن التقنية وحدها لا تكفي؛ لا بد من رؤية تحريرية وأخلاقيات صارمة تعصم الخطاب من الانزلاق إلى مستنقع التضليل.

على الدول أن تستثمر في سرديتها الوطنية: قصص إنسانية صادقة، شفافية تُبطل الشك، ومحتوى يشرح التعقيد دون تبسيط مُخلّ. القياس جزء من المعركة؛ فلا حملة بلا مؤشرات أداء، ولا رسالة بلا تقييم لأثرها على الثقة والسلوك. وعندما تنطلق حملة مضادة، تُواجه بالحضور الفوري، وبالمعلومة الدقيقة، وبإستراتيجية تتوازن فيها سرعة الرد مع عمق الشرح.

ومن الأمثلة القريبة، في حرب جاوزت الـ700 يوم، انتزعت حماس- بذراعها «الإعلام الحربي»- المبادرة على جبهة السردية. فبينما كانت غزة تعاني من شحّ الغذاء والدواء، كانت كاميراتها ترابط عند «النقطة صفر» لتوثّق هجماتها البطولية على القوات الإسرائيلية، وتُعيد صياغة المشهد أمام جمهور عالمي يتابع الصورة الفورية بوصفها دليلًا وموقفًا معًا.

الخلاصة واضحة ولا تقبل التأويل: في عصر تُحسم فيه المعارك بالكلمة والصورة قبل السلاح والقاذفة، ومن لا يُجيد فن الحروب الإعلامية يُسلّم خصومه مفاتيح الرأي العام. الإعلام ليس زينة للدولة، بل درعها ولسانها، وبين يدٍ ماهرة وأخلاق راسخة، تُصبح الكلمة حصنًا لا يُقتحم.

** باحث أكاديمي

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z