تقنية محطات سكة القطار

 

د. سعيد بن سالم بن حمد الحارثي

 

يروى أنَّ حكيماً يعيش مع أبنائه وبناته، ولهم إبل وغنم يرعونها ولهم كلب يحرس الغنم من الذئاب. جاء أحد سفهاء الحي وقتل كلب الحراسة ذاك، فذهب أبناء الرجل إلى أبيهم وقالوا له إنَّ فلانا قتل كلبنا، قال اذهبوا واقتلوا من قتل الكلب، فاستهجنوا الأمر من أبيهم، إذ كيف يقتلون إنساناً بكلب، فأهملوا رأي أبيهم، وبعد مُدة من الزمن هجم لصوص على إبل الرجل الحكيم وغنمه، ففزع أبناء الرجل إلى أبيهم مرة أخرى وأخبروه بالأمر، فردَّ عليهم أن اذهبوا واقتلوا من قتل الكلب!، فتراؤوا بينهم بأنَّ أباهم قد تلبّسه الجنون، إذ كيف يحدثونه عن اللصوص وسرقة الإبل بينما هو يأمرهم بقتل قاتل الكلب، فأهملوا أمره. وبعد فترة قصيرة هجم عليهم رجال إحدى القبائل وسبوا بنتاً من بنات الرجل الحكيم وساقوها معهم ففزع الأبناء إلى أبيهم وقالوا هوجمنا وسُبيت أختنا واستبيح شرفنا، فقال لهم اقتلوا من قتل الكلب، فعاد الأبناء يفكرون في أمر هذا الشيخ الكبير ويجزمون بجنونه، حتى قام الابن الأكبر ورأى أن يطيع أمر أبيه ليروا ما سيكون فقام إلى سيفه واحتمله وذهب إلى قاتل كلبهم وفصل رأسه بسيفه، فطارت أخبار قتلهم لقاتل كلبهم وطافت الآفاق، فقال اللصوص إن كان أبناء الشيخ قد قتلوا قاتل كلبهم فكيف سيفعلون بنا وقد سرقنا إبلهم وغنمهم، وفي عتمة الليل تسلل اللصوص وأعادوا الإبل والغنم إلى مراعي الرجل، وعلمت القبيلة التي سبت بنت الرجل بقتلهم قاتل كلبهم فقالوا إن كانوا قتلوا رجلاً بكلب فماذا سيفعلون معنا وقد سبينا ابنتهم فأعادوا البنت إلى أبيها وزوجوها لابن شيخ قبيلتهم، وعندها فهم أبناء الرجل الحكيم حكمة أبيهم.

لعل القول بأنَّ سكة القطار أنموذجٌ فريدٌ ينسحب على كل شيء في حياة البشرية، للقطار محطات على مسافات مختلفة في السكة التي يتحرك عليها، وكذلك للحياة الاجتماعية محطات سنها الله تعالى، على أنها قائمة على مبدأ التضاد في كل شيء، فهناك الولادة والوفاة والطفولة والشيخوخة والزواج والطلاق والنوم واليقظة والصحة والمرض والصحبة والعداء والحب والكره. وفي الحياة الاقتصادية هناك الربح والخسارة والغنى والفقر. وللسياسة من ذلك نصيب تظهره الحكمة والعبث والنظام والفوضى والسلم والحرب والأمانة والخيانة والصلاح والفساد. وعلى ذلك فإنَّ تقنية توفر محطات القطار لا شك بأن لها دور هائل في الإبقاء على جودة أدائه لتحقيق ما صُنع لأجله، ذلك هو شأن حكمة قتل الرجل الذي قتل كلب الشيخ. يترجل في كل محطة بشر ليصعد آخرون وعندما تطول رحلة القطار فإنَّ السأم يخيم على الوجوه والملل يقضي على حميمية الموجودين ويصيب فرامل القطار التلف. قال أحدهم: إن الفساد يطول عمره كلما انسحب الشرفاء من الميادين وآثروا السلامة. والحق أنَّ محطات الترجل من قطار المسؤوليات هي من التقنيات الأكثر كفاءة لضمان سلامة وأمن القطار العابر بهذا البلد المعطاء. ولتكن محطات الترجل هي الديدن المفروغ منه ولا مفر إذ ذاك. وسواء أكان المترجلون من الفاسدين أو الشرفاء. فهم على السواء يجب أن يخضعوا لطائلة التقييم الدقيق لقدراتهم ومهاراتهم. لم نعد في زمن تسيير الأعمال، وإلا فإنَّ الموظف العادي في مكتب المسؤول يستطيع أن يسير الأمور على شاكلة الروتين الممل الذي تتدحرج منه كل قرارات مؤسساتنا. نحن في مرحلة الدفع بالعجلة بأفكار نيرة وحس وثاب وتخطيط مبتكر. إنَّ معاناة حقيقية من عبث القابعين في سدة المسؤولية دون حس وطني خالص تحوم في الأفق منذ فترة ليست بالقليلة، وقد طالت بهم سكة القطار وتجاوزا محطات النزول واحدة تلو أخرى. وعندما أقول عبث فإني أقولها بملء ما تعنيه هذه الكلمة. إنه عبث بلغ حد التخمة وأصبح شائعاً في مؤسسات الدولة. كم نرغب أن نشتم رائحة الجرأة والجدية لدى بعض المسؤولين لتقصي مكامن الفساد في مؤسساتهم. ولكن ما نشتمه حقيقة هو الجرأة على تأبط الفساد الإداري أولاً تمهيداً لركوب موجة الفساد المالي. متى سنعقل معنى: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم". فقط "حفيظ ، عليم" هما الشرطان الوحيدان لعمارة الأرض. والحقيقة أنَّه ومع ندرة "الحفيظ العليم" قد لا نحتاج إلى شحذ أفكارنا كثيراً للوصول إلى مفارقة عجيبة مفادها أن الحفيظ العليم يمكن صناعته وتشكيله إذا ما قتلنا قاتل الكلب. والله المستعان.

تعليق عبر الفيس بوك