وهن العظم منهم واشتعلت رؤوسهم شيبا

د. مجدي العفيفي

 

نعم..  وهن العظم منهم واشتعل الرأس شيبا..  إنهم كبار السن.. الأب والأم والجد والجدة وسواهم من ذوي القرابة والقربى.. يشغلني البحث عن أشواقهم وعذوبتهم وعذاباتهم فيما تبقى لهم من العمر.. كثيرا ما يأنس القلب معهم ليستقطر رحيق تجاربهم.. ويستدعي من رؤاهم ما يعين.. ومن جدلياتهم مع الأيام الخالية ما يضيء اللحظة الراهنة في حياة الأجيال الجديدة المتحركة على الساحة لاسيما الشباب.. والسياق يستحضر الحكمة البالغة والبليغة «أواه لو عرف الشباب..وآه لو قدر المشيب» كبار السن هم كبار المقام.. عركوا الحياة وغالبوها.. هزمتهم وهزموها..أتعبتهم وأتعبوها.. تبادلوا معها الحوار.. وجادلوها بشكل أو بآخر..

***

ضمتني جلسة مع ثلة منهم.. شفافية روح.. وصفاء رؤية.. وانشراح صدر.. وبراءة قلب.. و«طولة بال».. ونظرة ليس فيها مآرب ظاهرة أو باطنة.. لكن استوقفتني ومضة..

قل هي فضفضة..  قل هي  همهمة ممن كان فارسا.. قل هي صهيل لصاحب جواد تعارك مع الأيام..قل هي باقة من الشجن الشفيف..  قل هي رجاء مغلف بالعزة من النفس العزيزة.. قل هي قطرة باردة في جو صحراوي عنيف لظمآن والماء ينساب أمامه زلالا.. قل ما شئت.. توصيفا لصاحب هذه التنهيدة في مجلس كنت به مشاركا.. يقول محدثي: فقدنا الكثير من حيوية الشباب وعافية الجسد ورونق الشكل ومجد المنصب وضجيج الحياة وصخب الدنيا.. فقدنا والدينا وفقدنا كثيرا من رفقائنا ، فقلوبنا جريحة ونفوسنا مطوية على الكثير من الأحزان.

الكلمة التي كانت لا تريحنا حال قوتنا الآن تجرحُنا والتي كانت تجرحنا الآن تذبحُنا..

لم نعد محور البيوت وبؤرة العائلة كما كنا قبل.. قد نرقد  ولا ننام، وقد نأكل  ولا نهضم، وقد نضحك ولا يفرح،  وقد نواري دمعتنا  تحت بسمتنا.

نحتاج  من يستمع لحديثنا ، ويأنس لكلامنا ، ويبدو سعيداً بوجودنا.. نحتاج بسمةٍ في وجوهنا، وكلمة جميلة تطرق آذاننا، ويدا حانية تمتد لأفواهنا ، وعقلاً لا يضيق برؤانا.

نراوح  بين ذكريات ماضٍ تولى ويزداد بُعدا، وبين آمال مستقبلٍ آتٍ وقد لا يجيء  فلا يفوتك تقدير هذا..حوائجنا أبعد من طعام وشراب وملبسٍ ودواء، بل وأهم من ذلك بكثير.. لدينا فراغ يحتاج عقلاء رحماء يملؤونه.. غادر بنا القطار محطة اللذة ، وصرنا في صالة انتظار الرحيل... ننتظر الداعي لنلبيه..

هذه الكلمات المعبأة بالمشاعر الصادقة، والمسكونة بالأحاسيس الصادرة عن نفس تراءي فيه نفوس كثيرة وتتكرر بصورة أو بأخرى، لا تبغي جزاءا  ولا تنتظر  شكورا، لا شيء إلا لأن هذا مايحتاجونه منكم، لتكونوا بارين بهم، وتدخلون رضوان الله من أوسع الأبواب، فهم  قريبون من الله دعاؤهم أقرب للقبول بإذنه، فأغتنم قبل نفاد الرصيد.. فهم أحوج من أطفالنا إلى التدليل والاسترضاء والعاطفة والحنان والرفق والرحمة والصبر والسهر والتضحية..

يؤلمهم بُعدُك عنهم ، وانصرافُك من جوارهم ، واشتغالُك بهاتفك في حضرتهم.. اجعلهم يعيشون أياماً سعيدة ، وليالَ مشرقة، ويختمون كتاب حياتهم بصفحات جميلة من البر والسعادة حتى إذا خلا منهم المكان لا تصبح من النادمين.

***

غير أن أحدنا قال ونحن نضع النقطة الأخيرة في سطر الجلسة الموقرة ذات الشجن الجميل والحزن الشفاف: إنها المرحلة الملكية في عمر الإنسان منا.. تلك المرحلة التي تستدعي استقطار آخر في زمن عز فيه التحديق والتحقيق والتدقيق.. ومرجعية الحديث عنها إنما تعود للمفكر الدكتور ابراهيم الفقي الذي شغل المجتمع بمثل هذه الأمور الاجتماعية والشأن المجتمعي.. إذ عندما تصل لهذه المرحلة، لن تجد نفسك مضطراً للخوض في أي نقاش أو جدال، ولو خضت فيه لن تحاول أن تثبت لمن يجادلك بأنه مخطىء... فلسان حالك كأنما يقول له: إذهب إلى الجحيم أنت وأفكارك !..

لو كذب عليك أحدهم ستتركه يكذب عليك، وبدل أن تشعره بأنك كشفته، ستستمتع بشكله وهو يكذب مع أنك تعرف الحقيقة..! ستدرك بأنك لن تستطيع إصلاح الكون، فالجاهل سيظل على حاله مهما كان مثقفاً، والغبي سيظل غبيا..!

سترمي كل مشاكلك وهمومك والأشياء التي تضايقك وراء ظهـرك وستكمل حياتك... نعم ستفكر في أشياء تضايقك من وقت لآخر... ولكن لا تقلق؛ سترجع للمرحلة الملكية مرة أخرى..ستمشي في الشارع ملكاً؛ مبتسماً ابتسامةً ساخرة، وأنت ترى الناس تتلوّن وتتصارع وتخدع بعضها من أجل أشياء لا لزوم ولا قيمة لها.. !.ستعرف جيداً أن فرح اليوم لا يدوم وقد يكون مقدمة لحزن الغد والعكس.. سيزداد إيمانك بالقضاء والقدر، وستزداد يقيناً بأن الخيرة فيما اختاره الله لك...

 إذا وصلت يوماً لتلك المرحلة لا تحاول أن تغير من نفسك، فأنت بذلك قد أصبحت ملكاً على نفسك، واعياً جداً، ومطمئناً من داخلك.. كلما تقدمنا في العمر زاد رشدنا، وأدركنا أننا إذا لبسنا ساعة ثمنها ثلاثمائة ريال أو  ثلاثة آلاف ريال فستعطيك نفس التوقيت.. وإذا عشنا في مسكن مساحته ثلاثمائة  متر أو ثلاثة آلاف متر فإن مستوى الشعور بالوحدة واحد..وإذا امتلكنا محفظة نقود سعرها ثلاثمائة  أو ثلاثمائة فلن يختلف ما فى داخلها..

وفي النهاية سندرك أن السعادة لا تتيسر في الأشياء المادية؛ فسواء ركبت مقعد الدرجة الأولى أم الدرجة السياحية، فإنك ستصل لوجهتك في الوقت المحدد..

  سرعة الأيام مخيفة.. ما إن أضع رأسى على الوسادة إلا ويشرق نور الفجر، وما إن أستيقظ إلا ويحين موعد النوم..  تسير أيامنا ولا تتوقف.. عش كل لحظة وكأنها آخر لحظة في حياتك، عش بحبك لله عز وجل، عش بالتطبع بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام عِش بالأمل، عِش بالكفاح ، عش بالصبر ، عش بالحب ، وقَدِّر قيمة الحياة.

 ***

في هذا السياق سألت أستاذي  أنيس منصور قبيل الرحيل وكان على مشارف أيامه الأخيرة «88 عاما»: لا تعترف بالشيخوخة التي قلت عنها في حديث سابق بـ«أخبار اليوم» أنها ضربت لك موعدا لم تعرف به ولا بها.

- قال: ولن أعترف بها.. مع أني دخلت الحياة «حارة حارة، وزنجة زنجة» علي حد تعبير القذافي الشهير، لذلك أقول للشباب أدخلوا الحياة من أوسع أبوابها المنيرة والمستنيرة، فالإحساس بالشيخوخة يولد الشيخوخة، والإحساس بالشباب يفجر ينابيع الشباب..

 من الأفضل أن لا تعترف بالشيخوخة، وبأنك شيخ، فقد استطاع الكثيرون من الشيوخ أن يحققوا المعجزات في الأدب والفن والعلم والاكتشافات والمغامرات، وكان هؤلاء الشيوخ قد أخفوا قدراتهم الخارقة علي شكل قوي احتياطية، وعندما انفقوا كل قدراتهم الظاهرية، استدعوا هذه القوي الاحتياطية، فأعادت إليهم شبابهم العاقل، بعد أن بددوا شبابهم المجنون قبل الشيخوخة والذين يتصورون أن الشيخوخة هي إنسحاب من الحياة، انسحاب يائس، انسحاب الإنسان المخدوع المغرور،

 وأن الشيخوخة هي الإدراك الحقيقي للحياة وهدف الحياة، وأنها فترة الانتظار القانع الذي يسبق الموت، ولكن الشيوخ لا يفكرون في ذلك ، إنهم يتمنون أن تعود بهم المعجزة الي حياتهم من جديد، مهما كانت متاعبهم، ومهما كانت أوجاعهم، فأوجاع الشباب يشفيها النوم، ومتاعب الشباب يخففها النسيان، ولكن أوجاع الشيوخ لا يخففها شئ، وأمراض الشيخوخة لا علاج لها، في الشباب كل الناس أصدقاء وأعداء ولا نري أحدا، في الشيخوخة لا أعداء ولا يرانا أحد، نحن نمضي من شروق إلي  غروب إلي شروق، ولاندري نهاية لأي شيء فينا أو حولنا!. 

***

  وهذه لطيفة.. تبرق في عيون هؤلاء الذين وصلوا الى محطة البركة الخفية، هي نسمة توشوشهم.. ورشة عطر تعبق في وجدانهم.. استقطرها من سردية إذ كشفت دراسة أجرتها NEJM Journal Watch عن أنه يجب على الشركات توظيف من تجاوز الـخمسين عاماً من العمر لشغل المناصب العليا لأنهم أكثر إنتاجية من أجيال سابقة كان منتصف الخمسينيات من العمر يعني الاستعداد للتقاعد والتفكير فيما يمكن أن يمارسه المرء بعد التقاعد من هوايات، لكن اليوم فإن هذه النظرة قد تغيرت لاسيما في #الغرب.

 بالمقابل، يواجه كبار السن وبشكل مباشر مشكلة في توافر فرص العمل، حتى لو أنهم فكروا في الاستمرار في الحياة العملية والوظيفة، فمن خلال إحصائيات حديثة يبدو أن الذين أعمارهم فوق الخمسين يلقون اهتماماً أقل في طلبات   التوظيف ممن هم أقل سنا, وترى (كيري هانون) وهي خبيرة في وظائف منتصف العمر لاسيما للنساء، والتي قضت عقدين تبحث في هذا الموضوع أن «المطلوب هو التخطيط المبكر، كيف يمكن لنا استعادة حيوية الموظف الشاب؟ وتقول: Sإن البحث عن الوظيفة بعد الخمسين يبدو صعباً، لكن ليس مستحيلاً، حيث يمكن بدء عمل جديد وهذا ممكن»

 في كتابها الجديد حول هذا الموضوع «الحصول على الوظيفة التي تريد بعد الخمسين»، تركز على هذه القضية باستفاضة، وتنصح بأن البحث عن مهنة ثانية يجب ألا يكون نزوة، بل عملاً مخططا له، وأن تعرف كم سنة ستعمل بالضبط خاصة بعد تجاوز سن الخمسين، وأن تحب بجد ما سوف تعمل فيه.

 ورغم أن البعض قد يرى أن الأوان قد فات، إلا أن هانون تقول: «إن هذه الفترة من العمر هي الأنسب لتحقيق أحلام الطفولة البعيدة، ويمكن لك أن تسأل أصدقاء تلك الفترة ماذا كنت ترغب أن تكون، فحتى لو نسيت فسوف يذكرونك، وليس ثمة فرصة أكثر مناسبة لتحصل على شغفك القديم سوى الآن»..

كذلك من بديهيات هذه المرحلة الجديدة، هي حسن إدارة الأمور المالية، فالوضع الآن أكثر حساسية من الماضي، يجب أن تعي جيداً على الأقل لمدة 6 أشهر، كيف تسير أمورك المالية، وكذلك تحسبك لحالات الطوارئ، وغيرها من الأمور، كما أن الاستثمار في المعرفة والتعلم يجب ألا يتوقف في هذه السن، فالتعلم عملية مستمرة ومتجددة لاسيما في هذا العصر، وفي الوقت الذي قد ينظر فيه صاحب العمل إليك في هذه السن كما لو أنك مشكلة، يجب أن تثبت العكس، من حيث المهارات والكفاءة وأن تبدو بصحة جيدة، وأنك متجدد من حيث الكفاءة أكثر من الأصغر سناً.

***

  تبقى ومضة جميلة:

هم كبار السن الآن ، وسيذهبون وعما قليل ستكون أنت هذا الكبيرَ المسنَّ، فانظر ما أنت صانع، وما أنت زارع!.

كن العِوضَ عما فقدوا.. وكن الربيعَ في خريف عمرهم.. وكن العُكّازَ فيما تبقى من أيامهم.

تذكروا أن أصحاب  البَـرَكة الخفية يداهمهم النسيان في كل شيء.. ما عدا ذكر الله!

سلامٌ على كبارِ السن...

وسلامٌ على من يراعون كبار السن.

 

***

 

شموع :

إن من يعبد الله،  أوْلى بسر الله في الوجود.

من كان في معية من لا تدركه الأبصار  لن تدركه الأبصار.

اعرف الله، وكن كيف شئت.

 

تعليق عبر الفيس بوك