لن نلومهم .. لكننا سنلوم أنفسنا

 

د. عبدالله باحجاج

ستُواجه بلادنا مجموعة تحديات كبيرة، مما يحتم إدارة سياسية وتنفيذية واعية بها، وصاحبة قرار لمواجهتها، ومن ثمَّ معالجة تداعياتها أولاً بأول عوضاً عن أن تتراكم القديمة مع الجديدة، ففوق القديم استجدت قضية المُسرحين ببعديها الداخلي والخارجي، فما أن تفجرت القضية داخلياً وبأعداد كبيرة، تسارعت الأحداث، وأقدم الأشقاء في الإمارات على تسريح آخرين، فالتقى البعدان الداخلي والخارجي في قضية المسرحين في حين لم تكن إدارتنا لها في مستوى تحدياتها الداخلية.

فإيقاف دفع الأقساط البنكية لمدة 12 شهراً ليس حلاً لقضية المسرحين في الداخل؟ هي خطوة تمنع سجنهم مؤقتًا، لكن ماذا عن مأكلهم ومشربهم ومسكنهم، فهل سنتركهم للجوع وأسرهم للضياع؟ هم الآن عالقون بلا مرتبات، وكلنا نعلم المآلات الأسرية والاجتماعية لمن يفقد عمله، ويجد نفسه بلا راتب.. وهذا فراغ قانوني ومؤسساتي يُلقي بظلاله السلبية على مسيرة العمل الآمن في بلادنا، والآن، فمن لهم إذا لم تتدخل الحكومة، وتؤمن لهم استمرار العيش الكريم حتى يجدوا أعمالا أو يُعادوا لأعمالهم؟ 

وكذلك الشأن بالنسبة لأبناء الوطن العائدين من الإمارات بلا مرتبات.. فكيف نستقبل عودتهم؟ وكيف سنُعالج قضيتهم؟ اتصل بنا بعضهم مستاءين، ومتسائلين عن ضرورة التدخل العاجل للدولة في قضيتهم، موضحين أنَّهم خرجوا من الخدمة بعد سنوات طويلة من العمل بلا مرتبات، وعليهم كذلك التزامات بنكية وأسرية واجتماعية، سنفتح هذا الملف في مقال خاص لمعرفة أسباب عدم منحهم راتبا تقاعديا بعد تطبيق نظام التأمينات الاجتماعية المُوحد في دول المجلس الست.

والشيء الذي نؤكد عليه هنا، أن مثل هذه السياسات لا تخدم البعد السيكولوجي لأي شكل من أشكال الوحدة الخليجية المأمولة؛ حيث يفترض أن تكون حقوق الديموغرافيات الخليجية في أية دولة من الدول الست محصنة وآمنة إذا ما أردنا أن تكون الشعوب عامل دعم للوحدة، ومثل هذه السياسات تجعل الشعوب تكفر حتى بالتقارب .. لكننا لن نلوم الأشقاء، وإنما سنلوم أنفسنا، من هنا نُقدم مجموعة اقتراحات هامة، أولاً: نطالب بتشكيل لجنة عاجلة "معلنة" من فاعلين لديهم حس وهاجس بالمجتمع، وتكون مرتبطة بالمؤسسة السلطانية مباشرة لإدارة الملفات الاجتماعية الساخنة كحتمية مرحلية لها الأولوية على كل الأولويات الأخرى.

ولماذا الارتباط بالمؤسسة السلطانية مُباشرة، لأننا نعتبر الملف الاجتماعي باحتقاناته التراكمية والجديدة، وباستحقاقاته الاجتماعية المؤجلة، من قضايا الأمن الوطني في ضوء تحديات داخلية وخارجية تنتظر بلادنا قريباً، سنشير إليها في مقال مقبل حول مستقبل دولتنا الوطنية.

ورغم ذلك، فالتساؤل سالف الذكر لا يزال مطروحًا، فلو تأملنا في خارطة التحديات الاجتماعية القديمة والجديدة وتلك المتوقعة كلما تعمقنا في منظومة الضرائب والرسوم وتطبيقاتها في ظل الإدارة الحكومية الراهنة لها، سيتضح لنا استشراف واضح بها من الآن، فهل نتركها تذهب بالدولة والمجتمع إلى تلك المنحنيات أو نترك مسؤوليتها لبيروقراطيات تفقد الإحساس بها؟

ثانيا: الإسراع في إقامة صندوق مالي تشارك فيه الحكومة وشركاتها العمومية والشركات الخاصة الكبيرة لصرف مرتبات شهرية للحفاظ على كرامة المسرحين وكياناتهم الأسرية من الانهيارات، ولن يختلف معنا في هذه المآلات الناجمة عن فقدان الوظائف والمهن، ولم يكن لهم دخل غيرها.

ثالثا: الانفتاح على مقترحنا السابق بإقامة مجالس للأمن الوظيفي في كل محافظة من محافظات البلاد بعد ما أثتبت هذه المجالس نجاعتها في بلد كالسويد، حيث ستقوم هذه المجالس عبر أطر وكوادر تدريبية متخصصة، بإكساب المسرحين مهارات جديدة لمهن يشغلها عمالة آسيوية وهي مستدامة ومرتباتها عالية، فهذه الكوادر والأطر، ستتجول بهم في جولات ميدانية في الشركات، وستكسبهم مهارات لهذه المهن، فمثلاً مهارات توصيل الكيبلات في قطاع الكهرباء وكذلك قيادة المعدات والأجهزة في شركات النفط الكبيرة .. وغيرها كثير من المهن التي لا تتطلب سوى مهارات فقط.

وقد اطلعنا مصدر مقرب من هذه القطاعات على هذه المعلومات الهامة أثناء تفاعله مع مقال لنا سابق حول مقترح مجالس الأمن الوظيفي، ولو أمعنا التأمل في تحديات المرحلة المقبلة، نرى أنها تحتاج فعلاً لمثل هذه الأفكار غير التقليدية وفي الوقت نفسه تحتاج لفاعلين وكوادر وأطر غير تقليدية .. كل ما سيستجد فوق مشهدنا الوطني سيكون خارج نطاق النمطية والتقليدية، لذلك يحتاج لفكر جديد من خارجها، وإلا فما الحل؟

هل يكمن هذا الحل في بقاء القضايا الجديدة تتزاحم وتتداخل مع القضايا القديمة؟ وهل معالجتها الراهنة مقبولة؟ وما هو التالي من القضايا التي يتوقع بروزها فوق السطح؟ وكيف لو تركنا المجتمع مفتوحاً على الداخل والخارج دون ضمانة وحماية الدولة، وكذلك دون مجتمع مدني يقوم بدور الحكومة؟ ندعو إلى التفكير فيما تطرحه هذه التساؤلات من آفاق.. ولو أمعنا التفكير فيها من المنظور السياسي، سيظهر الملف الاجتماعي بكل تفاصيله سواء التي أشرنا إليها سابقاً أو تلك التي أشرنا إليها في مقالات سابقة كقضايا الباحثين عن عمل وعدم عدالة صناديق التقاعد والترقيات وتداعيات الضرائب والرسوم ومعاناة المتقاعدين.. إلخ، سيظهر أنه يستحق أن يحتل قمة الأولويات الوطنية العاجلة.

وتبرز في الوقت نفسه أهمية إيلاء مقترحاتنا سالفة الذكر بحاكميتها العليا، لأنَّ الحاكمية تعبر عن الإرادة السياسية العليا لمعالجة القضايا الملحة، ولأنَّ مرحلتنا الوطنية الجديدة، تستلزم هذه الحاكمية وعدم تفويضها لآخرين لحساسية القضايا، ويكفي أنها تمس أمننا الوطني، وقد رأينا عملية التفويض التي لم تنتج لنا سوى حلول جزئية ومجتزأة .. وذلك حتى يتم بلورة التصورات السياسية الجديدة لانطلاقة النهضة العمانية المتجددة، ورهاناتنا عليها أن تكون في إطار تعزيز الطابع المؤسساتي المحكوم بالاستقلالية والرقابة السياسية والقضائية على فاعليها.

ومقالنا اليوم هو بمثابة دعوة عاجلة للاستجابة لمُعاناة المسرحين ببعديها الداخلي والخارجي وفق ما أوضحناه سابقا دون الانتظار لتطبيق رؤية عمان 2040، فقد نما إلى علمنا أنَّ هناك هيكل مؤسساتي يقترحه برنامج تنفيذ لمعالجة مستقبل هذه القضايا، مطروح باسم "صندوق ضد التعطيل" فالإسراع في إقامة هذا الصندوق الآن يتناغم مع توجهات الرؤية، وقد حان أوانه قبل أوان الرؤية، لكنه سيكون مستمداً منها، للظروف القهرية التي يعيشها الآن المسرحون.