النشر بالإنجليزية وتحديات هجرة الرصيد الفكري

د. سيف بن ناصر المعمري

 

استرجعت، خلال الأسبوع الماضي، وأنا أمضي إلى الدور السادس من مبنى كلية التربية بجامعة جلاسجو، والمسمَّى بمبنى سينت أندروس (St Andrews)، حوارًا دار في العام 2006 بيني وبين زميل سويدي من أصول نيجيرية يدعى "سواريبي"، كان يدرس الدكتوراه بنفس الجامعة، حول دور العولمة في قبول التعددية اللغوية داخل الجامعات الغربية التي يؤُمها اليوم عشرات الآلاف من طلاب العالم الثالث لنيل درجاتهم العلمية العُليا، يومها أثار سؤالا: إذا كنا في عولمة حقيقية فعلا، فلمَ لا يُتيحون لنا كتابة الرسائل العلمية كل بلغته الأم؟ بعبارة أخرى: لماذا يجب أن يكتب الطالب رسالته باللغة الإنجليزية بدلًا من لغته؟ وذلك يقود إلى تحقيق هدفين: إتاحة الرسالة لاستفادة الباحثين باللغة الأم، وأيضا تعزيز المكانة العلمية للغة التي كُتبت بها الرسالة.

استيقظتْ هذه الأسئلة في ذهني، وأنا أرى في هذا المبنى العشرات من طلاب الدكتوراه القادمين من الخليج وغيره، يملأون أكثر من غرفة، بعكس ما كانت عليه الحال قبل 14 عاما؛ حيث كُنَّا ستة طلاب يعكفون على إنجاز رسائل علمية في قضايا تربوية حيوية في بلدانهم، ومثل هذا العدد يتواجد في كليات أخرى بالجامعة والجامعات الأخرى، حتى إنَّ بعض الجامعات صارت لا تجد أماكن كافية لكثرة الطلاب فيها، ويشير تقرير اليونسكو للعلوم: نحو عام 2030، إلى أنَّ نسبة طلاب المملكة العربية السعودية المسجَّلين ببرامج الدكتوراه بالخارج هي الأعلى عالميًّا حيث تبلغ 109.3%، مقارنة بالطلاب الذين يدرسون داخلها، تليها فيتنام بنسة 78.1% في العام 2012م، وهو نتاج خطة تسعَى من خلالها حكومة فيتنام إلى إحلال 20000 من حملة الدكتوراه إلى الجامعات الفيتنامية، وهو ما يفترض أنها حققته هذا العام 2020، هذه المؤشرات الرقمية تحمل أيضا مؤشرات علمية متعلقة بإنتاج هؤلاء الطلاب الفكري من رسائل علمية وأوراق بحثية تعود للجامعات واللغات التي ينشرون بها.

إنَّ خروجَ هذه الإنتاج العلمي باللغة الإنجليزية لن يُمكن قطاعات كبيرة من طلاب الدراسات العليا في الوطن العربي والخليج، من الإفادة منها، ومن منهجياتها؛ مما يجعلهم أسرى كثيرٍ من الكتب والدراسات التي إمَّا أنها قديمة ولم تحظَ بالتحديث الفكري المستمر الذي تشهده العلوم في العالم، أو أنهم سيعملون تحت ضغط تطريز الدراسة بمراجع أجنبية إلى قراءة محدودة وغير عميقة تقود بعضهم إلى مُغالطات يتم تناقلها لاحقا كمسلَّمات علمية؛ مما يقود -بشكل أو آخر- إلى تأسيس فكري غير متين لهذا الحقل وغيره من الحقول، أشعرني هذا التأمل بالأسى فعلا على هذا الاستلاب الممنهج للرصيد الفكري، الذي لا يقل أهمية عن الأرصدة المادية، وقلت متى ستنتبه دولنا إلى هدر رصيدنا الفكري؟

وأنا أنزل السلم المتدرِّج في هذا المبنى المُطل على الشارع من واجهة زجاجية كبيرة، دار حوار داخلي بنفسي لم يهدأ حتى الآن، وبدتْ لي تلك الواجهة الزجاجية أشبه بشاشة تنقل مشهدا مقلقا إلى حد كبير، لا يُمكن أن تستسلم له الشعوب التي تتطلع للمستقبل بجدية وتسعى لتوطين المعرفة من أجل توطين التنمية والتقليل من الاعتماد إلى الآخر؛ الأمر لا يتعلق بمشروعية التوجه للغرب لأخذ العلوم؛ فهذا هو الجسر المؤمل أن ينقلنا إلى ضفة الاستقلالية يوما ما، ولست هنا ضد تعلم اللغات، والإفادة من الشعوب المتقدمة، فكما يقال: "من تعلَّم لغة قوم أمن شرهم"، ولكن كيف يمكن أنَّ يُؤمن هذا الشر المتحمل!! والمشهد الذي ذكرته في الأعلى هو مجرد لقطة واحدة من فيلم طويل يحمل عشرات المشاهد طوال هذه السنين؛ التي بدلًا من أن تقرب بيننا وبين توطين المعرفة باعدتْ المسافات، ودخلت متغيرات كثيرة على مثل هذا التفكير الذي أُجزم أنه أصبح اليوم نسيًا منسيًّا، فلا يهم من العملية كلها إلا الابتعاث، أما ما يرتبط بالرصيد الفكري الذي يفترض أن تبلور إستراتيجية لتوطينه والحفاظ عليه، فلا أتوقع أنه يعد أمرًا ملحًّا.

إن ما يضاعف من تعقيدات هذه العملية وآثارها هو أن كثيرًا من الجامعات في المنطقة باتت تفرض على باحثيها بشكل عام، وأولئك المتخصِّصين؛ ففي الكليات الإنسانية النشر باللغة الإنجليزية، بل إنَّ هذه الجامعات مضت تمنح مكافأة مالية لمن يقوم بذلك، وعُد ذلك أساسا للترقية العلمية ومعيارا للتفاضل، وضاع الحق في المعرفة المتجدِّدة على أبناء هذه الأوطان ممن لا يجيدون الإنجليزية، وحُرِموا من أن يستفيدوا من تلك الأبحاث التي يجريها أساتذتهم في الكليات التي ينتمون إليها، وهُدِر رصيدٌ فكري كان يمكن أن يتطور باللغة الأم، هنا ليس موضوعنا المسألة اللغوية، وإنما الجانب الفكري، وهو الذي يقود لترسيخ التبعية المعرفية الممنهجة لأجيال وليس لجيل واحد.

أمام هذه النتيجة الفادحة، كيف يُمكن تطوير القطاعات التنموية، وكل ما نُعالجه وندرسه من إشكاليات، وما يُقدَّم من اختراعات واكتشافات يوجه لفائدة الجامعة المستضيفة، والتي تمول بأموالنا، ونساعدها في التعرف على أحوالنا وأوضاعنا، والسؤال الذي يلح علينا: ما الثمن الذي نكسبه لهذا الهدر الفكري؟ إن كان ما يجري هو وسيلة للرفع من تصنيف جامعاتنا، فتلك الغاية يمكن تحقيقها، ولكن ليس على حساب هذا التفريط الفكري، وإنْ كان الثمن هو مُجاراة ما يجري من عولمة التعليم العالي؛ فهو أيضًا مبرِّر لا يُمكن قبوله؛ لأن العولمة هي هيمنة لابد من مواجهتها بشيء من الحكمة لا يقود إلى هذا الانقياد التام.

لستُ هنا لحسم هذه القضية الكبيرة والمتجذرة، وإنما لإثارة التفكير في المياه الراكدة لتوسيع دوائر التفكير في الأوساط الحكومية ومسؤولي الجامعات من أجل الحفاظ على الرصيد الفكري الناتج عن الأبحاث العلمية؛ سواء من المبتعثين أو الطلاب الذين يدرسون في أوطانهم، أو هيئات التدريس، فإنْ لم ننظر إلى الأمر بجدية، فهناك ضبابية في نظرتنا للمستقبل، الذي يمرُّ عبر بوابة التعليم والبحث العلمي وتوطين المعرفة.