الجولات السلطانية.. برلمان عُمان المفتوح

مسعود الحمداني

 (1)

كانت جولات السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- رحمه الله- في الولايات حدثاً كبيراً، واستثنائياً، ففي هذه الجولات يجتمع بأبناء شعبه، يستمع لمطالبهم عن قرب دون وسيط، ويقترب منهم أكثر دون تحفظ، ويصدر أوامره السامية لوزرائه دون روتين وبيروقراطية جوفاء، حتى صارت تلك الجولات برلمانًا حرًا تجري أحداثه في الهواء الطلق، وينتظره الشعب بلهفة عارمة، لأنَّه بالنسبة لهم عيد لرؤية السلطان، وتوصيل أصواتهم ومطالبهم له، وسماع أحاديث جلالته ببساطة ودون أوراق مكتوبة.

(2)

كان من السهل على السلطان أن يكتفي بتقارير الوزراء، وقراءة منشورات المُراقبين، والجلوس في مكتبه خلف طاولة في القصر، ويقرر ما يراه مناسباً، غير أنَّ الحاكم الحق هو ذلك الذي يقترب من شعبه، ويركب الصعاب كي يصل إليهم، ويكابد قسوة العيش، وشظف الحياة كي يرى المشهد على واقعه، لا كما تنقله التقارير الورقية، لذلك كنت تلك الجولات بمثابة اختبار لإرادة الحاكم، وولاء المحكوم، ودليل على مُثابرة السلطان في بناء علاقة متينة وقوية ومباشرة مع شعبه، وعدم الاكتفاء بما يرد إليه من أقاويل أو تقارير.

(3)

كانت تلك الجولات برلمانًا وطنيًا مفتوحًا، وتجربة بماركة عمانية مسجلة، ومُتفردة، ولعل أسماء (السيوح السلطانية) هي الأخرى علامة على التفاؤل، والتسامح (سيح الطيبات، المكارم، المسرات، المحاسن... وغيرها)، فكل الأسماء لم تُطلق عبثاً، أو مصادفة، بل كانت وفق رؤية سمحة، ومريحة للنفس، فهي بمثابة حضن حانٍ يحتضن السلطان والشعب كل عام، لذا فإنَّ لأسمائها دلالات رمزية دقيقة، وتتعلق بالذات الإنسانية، وحبها للخير والجمال.

(4)

تشرفتُ بحضوري في عدد من الجولات السامية في ولايات الباطنة، ورأيتُ كم التحضير، وهيبة اللقاء، والرسم الدقيق للمشهد، وكيفية طرح القضايا، واقتراب جلالته -رحمه الله- من المُواطن، ومحاولته تذليل كافة العقبات، وتبسطه في اللقاء، والإصغاء باهتمام لكل من له قضية أو طلب من المواطنين، وتوقيره للكبير، واحترامه للصغير، وعدم تعاليه على محدثه، لذلك كانت تلك الجولات عبارة عن (سبلة) عُمانية ضخمة، خرج من خيامها العديد من الندوات والتوصيات والقرارات التي أصبحت نهجاً سياسياً، واجتماعياً واضحاً في إدارة شؤون البلاد.

(5)

كان تقدير جلالته للشعراء كبيرا، فلم تخل جولة من جولاته في الولايات من الاستماع لصوت الشعر، والذي كان ينتهي به اللقاء عادة، ويتنافس فيه الشعراء الذين يتم اختيارهم للإلقاء على مسامع جلالته في حبهم لوطنهم، وله، فكانت تلك القصائد بمثابة صوت المواطن وعاطفته ووجدانه التي تنقل إحساس الشعب، ونبضه، وولاءه.. لقد كان الشعر ملازمًا ومصاحبًا لتلك الجولات.. وهذا دليل على الإحساس المرهف للسلطان قابوس- طيب الله ثراه- وتقديره للشعر والأدب، وهو ملمح آخر من ملامح تلك الجولات.

رحم الله السلطان قابوس على كل المشقة والجهد اللذين بذلهما ليكون قريباً من شعبه، وسيسجل التاريخ تلك الجولات بأحرف من نور، بكل تفاصيلها، ومشاهدها، ومشاهداتها.

Samawat2004@live.com