تأبين العظماء

أحمد ناصر الفارسي

 

عندما يرحل العظماء، تبكي السماوات والأرض، وتنفطر القلوب، وتنطفي منارة كبرى، كانت ترسل إشعاعات الخير والنور والسلام إلى البشرية جمعاء، وعندما يموت العظماء؛ ينكسر التاريخ، ويعتري الجغرافيا ألم الفقد، وحزن الفراق.

جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- أحد هؤلاء العظماء الذين أنجبتهم عمان في القرن العشرين، ووهبتهم شمائل البطولة والعظمة، وحبتهم بقدرات مميزة ارتقت بهم إلى سلم المجد والتضحية والعطاء والفداء.

قابوس بن سعيد رجل ليس ككل الرجال، ورمز ليس ككل الرموز، فما تركه هذا الرجل الاستثنائي، بين دفتي كتاب حياته؛ الذي تتقاطر من صفحاته المضيئة، كل صور العطاء والفداء، يضعه حتما بين أهم قادة الدنيا العظماء الذين غيروا التاريخ.

إننا اليوم إذ نرثي الوالد القائد السلطان قابوس –طيب الله ثراه- فإننا لا نرثي رجلا عاديا، أو شخصا عابرا، وإنما نرثي رجلا بأمة، رجل أحيا شعبه، وأخرجهم من ظلمات القرون الوسطى، إلى أنوار الحياة الحديثة، ومن ضيق الظلم والظلام، إلى فسحة العدل والنور، فقد عمل على مدى خمسين عاما، ليلا ونهارا لخدمة قضايا الأمة، ونشر السلام، والوئام في العالم، وبالتالي من الصعب رثاء قامة كبرى، كقامة السلطان قابوس، الذي أفنى حياته في سبيل نصرة الدين والإيمان، ونشر معاني النور والفضيلة وتحقيق السلام، وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، لتحقيق النماء والازدهار، لما فيه مصلحة دول وشعوب المنطقة ومستقبلها.

نعم من الصعب على أي رجل مهما أوتي من قوة أدبية وبلاغية، أن يؤبّن هذا الراحل الكبير، وعملاق التاريخ؛ قابوس بن سعيد رحمه الله- الذي نقل أمة نحو العدالة، وأصلح العرش، الذي كاد أن يهوي في ظروف بالغة الدقة والحساسية، وهو بهذا الفعل قد يكون آخر محرر كبير في القرن العشرين.

ويجب أن تعي الأجيال الجديدة؛ صعوبة المهمة التي بدأها السلطان قابوس - طيب الله ثراه- في سبيل تحقيق هذه المهمة النبيلة والمشرفة والتي لا تليق إلا بالرجال العظماء من أمثاله، فقد ضحى السلطان قابوس بأغلى ما يملك، وسمت روحه العظيمة التواقة دوما إلى الحرية والعدالة فوق كل رابطة أو نسب، من أجل الوطن الأغلى عمان، وتحمّل تبعات مهمة إصلاح العرش، بكل عزم وثبات، وإرادة حديدية لا تلين، لينقل أمة من الظلمات إلى النور بإذن الله.

بعد ذلك تولّى السلطان قابوس - طيّب الله ثراه- مقاليد الحكم في بلدنا العزيز، وسار الجميع خلف قيادته، فرحين مستبشرين الفجر الجديد، الذي ظهرت لهم ملامحه في محياه الكريم الطاهر، وجه الخير الذي غيّر عمان إلى الأبد.

لقد رأينا جميعا كيف كان هذا المؤسس العظيم؛ يقطع مسافات الدهور والأيام؛ ويسابق ساعات الزمان، من أجل أن يجعل أبناء شعبه سعداء بأسرع ما يمكن، وهو عهد ووعد قطعه على نفسه الأبية، العهد والوعد الذي نشهد جميعا أنه أوفى به، فأي نفس عظمية يحتويها هذا الرجل؟ وأي وفاء هذا الذي يحمله قلبه الكبير، فقد أظهر السلطان قابوس - رحمه الله- قوة في العمل، وصلابة في الحرب والسلم، وبشاشة وروح دعابة تعلو محياه الكريم، على الرغم من كل الأعباء الثقيلة التي تحملها في حياته الغنية بالعبر والدروس.

هكذا رحل السلطان قابوس - طيب الله ثراه- بعد أن حمل هموم آلامه على عاتقه، حتى آخر يوم من حياته، وهكذا دائما يموت العظماء.

اليوم، وبعد أن غادرنا عاهل البلاد العظيم، لكي يرتاح بجوار ربه الكريم، دعونا نستلهم الدروس والعبر من سيرته العطرة المباركة، دعونا نتعلم منه القوة في مواجهة الشدائد، ونستحضر هيبة روحه العظيمة التي ترفرف بسلام وشموخ فوق سماء الوطن، دعونا نتعلم منه انتظار الفجر الجديد، رغم ظلام الأمس الدامس، مرددين عبارته الخالدة: "كان بالأمس ظلام، ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على عمان وأهلها".

رحم الله هذه الروح العظيمة، والتي نفتقدها بشدة، رحم الله السلطان قابوس برحمته الواسعة، وجعله مع الصديقين والشهداء والإبرار، إنّه سميع مجيب الدعاء.

تعليق عبر الفيس بوك