ساعة الحقيقة لا تدق كل آنٍ

 

 

ساعة الحقيقة لا تدق في كل آن.. لكنّها ستظل تدق وتدق ليُسمَع صوتها من مسقط

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

رغم الأحداث المحزنة التي مرت بها السلطنة خلال الفترة الماضية؛ بفقد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- إلا أنّها أكدت بما لا يدع مجالا للشك ما يقال بأنّ "ساعة الحقيقة لا تدق كل آن"، فخلال تلك الأحدث دقّت ساعة الحقيقة وسمع صوت عقاربها أولئك الذين كانوا يصمون آذانهم، عن المكانة الراسخة والقوية التي تحظى بها سلطنة عمان عالميا؛ كدولة عربية لها ثقلها السياسي الكبير الذي يقدره رؤساء العالم الذين تقاطرت وفودهم إلى مسقط للتعبير عن عزائهم، وتجديد تقديرهم للسلطنة وثقتهم فيما تقوم به من جهود للحفاظ على أمن المنطقة وسلامها، من خلال علاقتها الحسنة مع مختلف الأطراف الذين لم يتفقوا على شيء قدر اتفاقهم على حياد الدور العماني ونزاهته في ما شهدته المنطقة وتشهده من تجاذبات وصراعات، لم يهدأ بعضها إلا من خلال الجلوس على طاولات الحوار في مسقط التي أسقطت برسوخها طوال العقود الماضية كثير من الصراعات المعقدة في المنطقة.

دقت ساعة الحقيقة ولابد من الإيمان والتسليم بأنّ هذا الزمن عماني، وسيظل عمانيًا، وستظل المثل والقيم العليا التي يعمل بها العمانيون في سياستهم الخارجية أقوى من أي سلاح، وأعظم تأثير من أي موارد وما ينشأ منه من ضغوطات؛ وليس أصدق من ذلك من تكرر اسم عمان خلال تلك الأحداث المحزنة عشرات المرات على ألسنة رؤساء العالم، والصحفيين والمحللين، والقنوات التلفزيونية؛ مقرونة بجوانب إيجابية جدا وهي السلام، والنزاهة، ونزع فتيل الأزمات، والصدق، والجدية، وأنّه من النادر جدا للعالم أن يتكرر اسم دولة عربية مقرونة بهذه الصفات في العقود الأخيرة، ولكنها بالفعل ثمار لم تدق بها ساعة الحقيقة في كل وقت إنّما في الأحداث الاستثنائية التي تقود إلى ما عبرت عنه الآية الكريمة التي قال فيها الحق سبحانه وتعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)، لقد ذهب في ساعة الحقيقة كثير من الزبد الذي يملأ الأفواه والمحطات والصحف، مما يأتي به كثير من المحللين والمتحدثين غير الموضوعيين، والذين تعصف بهم الأهواء في كل اتجاه، وظهر ما لم يكن يقال كثيرا أو يجسّد لكي يشاهد ماثلا وواقعا، ظهر أنّ العالم كله لا يمكن أن يثق اليوم في بلد بالمنطقة كما يثق بسلطنة عمان، وهذا ينبغي أن يكون مصدر فخر كبير لدول قبل أن يكون مصدر فخر للعمانيين؛ لأن ما تداول عن عمان خلال أيام فقط حسّن الصورة المشوهة التي زرعها البعض عن المنطقة في أذهان العالم، وتأثير ذلك لن يكون سياسيا فقط وإنما سوف يمتد إلى جوانب أخرى ثقافية واجتماعية، إذا ما عرفنا تأثير الإعلام في تكوين الصور وصياغة الاتجاهات نحو أمم ومناطق جغرافية معينة.

لقد انتصرت سلطنة عمان وهي في أوج حزنها، انتصرت مرة أخرى بدون أية أدوات أو معدات حرب، انتصرت في وضح النهار الذي التقى فيها العالم كله في عاصمتها مسقط، انتصرت في جمع هذا العالم بمختلف أطيافه وتوجهات بما استثمرته في علاقتها الخارجية من قيم ومحبة وسلام، ومواقف نبيلة، مع الذين معها والذين ضدها، ظلت كما وصفها أحد الرحالة يوما "صخرة ثابتة في محيط متحرك" من الصراعات والمؤامرات والتحزبات، ظلت قابضة على موقفها في وقت بدل من حولها مواقفهم ملايين المرات، وفي الوقت الذي ولوجوا فيه الدروب المعتمة أصرّت على أن تلج في الدروب الواضحة والصادقة، فزهدت في الإساءة التي حولها البعض إلى سياسة، وتجردت من نزعات الانتقام في وقت جعله البعض هدفا ليشفي به غليلا مريضا لا يمكن أن يشفى، ولم تجند محاكم تفتيش تفتش عن جرح قديم أو زلة غير مقصودة أو عن تصريح أو خلاف يحدث في كل حين، لكي تجعل منه معولا تهدم به عرى أخوية ومصالح مجتمعية، وعلاقات دولية، بدلا من ذلك كانت تترصد أي فرص لتمتين عرى الصداقة، وعلاقات المودة، لأنّ القلوب الثابتة المجربة تدرك أهمية الوصل والتواصل الإنساني ودوره في تحقيق الرخاء الذي ينعم به الجميع.

ساعة الحقيقة لا تدق في كل آن، ولكنّها ستظل تدق وتدق ليسمع صوتها من مسقط، حاملا دائما للعالم الذي جاء ليجدد ثقته في عمان ودورها الإقليمي والعالمي بشرى تلو بشرى عن حل كثير من الصراعات المحتدمة في المنطقة، ولتؤكد مرارًا وتكرارا إنّه إذا أردت يومًا أن تحل صراعا معقدا فعليك بعمان، وإن أردت أن تكسب موقفا واحدا راسخا فعليك بعمان.