قابوس.. دروس مستمرة

 

محمود المدني

(وإذا كان لنا أيُّها المواطنون أن نزهو ونفخر بالإرث العظيم الذي تلقيناه عن الأسلاف فإنَّ ذلك يجب ألا يكون الغاية التي يجب أن نقف عندها مُكتفين باجترار الماضي ونعيش على ذكرى مفاخر، فذاك خُلق الخامل الذي لا عزم له، وحاشا أن يكون العُماني كذلك، فلقد أثبت دوماً أنَّه ذهنٌ متوقدٌ وفكرٌ مُتجددٌ وروحٌ وثابةٌ تطمح إلى ارتياد الآفاق لا تنثني عن مطلبها إلا غالبة ظافرة، ومن هنا كان لزاماً أن نبني كما بنوا وأفضل مما بنوا مُستلهمين من عطائهم الإنساني العظيم دافعاً إلى البناء والتعمير وحافزاً إلى مزيد من الرقي والتطوير).

قابوس بن سعيد

 

وكأنَّ جلالة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- حينما نطق كلماته آنفة الذكر أراد أن يُرسل رسالة للشعب العُماني مفادها أنَّ الحياة لا تتوقف لموت أحد أو حياته، وأنّ سنة الله ماضية في الكون ويجب ألا يكون فقد القادة وحداة الركب سبباً للخمول والتخاذل، بل يجب أن يكون ذلك دافعاً وحافزاً للمزيد من البناء والتطوير ومواكبة التقدم العالمي، ولم يكتفِ جلالته بالكلمات فقط وخلافاً لما اعتاد النَّاس عليه وهو أن ينتهي عطاء البشر بموتهم، أبى جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- إلا أن يكون مختلفاً بعد موته كما كان في حياته الحافلة بالعطاء المُكرسة لخدمة أبناء شعبه وراحتهم والارتقاء بهم، حيث قدّم دروساً عملية جلية للمُتأمل في مشهد مراسم تشييع جلالته التي أعدها قبل وفاته وساقها لهذا الشعب وللعالم أجمع ابتداءً من اختيار ذات السيارة التي دخل بها مسقط قبل 50 عاماً لحمل جثمانه في رسالة مفادها أنَّه مهما ملكت من الدنيا فإنِّك لن تخرج بشيء منها إلا عملك الصالح وعطاؤك الذي قدمت لصالح البشرية جمعاء، ثم يأتي درس آخر وهو الإسراع في ستر الميت وعدم انتظار حضور الملوك والسلاطين والتفاخر بالجنازات المهيبة وغيرها، في امتثال واضح لما روي في مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"ثلاثة يا علي لا تؤخرهنَّ: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً".

أما ثالث الدروس وأبلغها أثراً فهو حرصه على عدم التأخر في اختيار خلفه في الحكم ووصيته بأن يتم ذلك على أسرع وجه تجنباً للشقاق والخلافات والفتن، فقد أوصى بالخلافة لمن توسَّم فيه صفات وقُدرات تُؤهله لحمل أمانة الحكم - جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور -حفظه الله ورعاه- وذلك في سير واضح على هدي الخلفاء الراشدين المهديين؛ حيث سمى سيدنا عُمر بن الخطاب بعد أن طعنه المجوسي ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تُوفي وهو راضٍ عنهم لخلافته، منهم عُثمان بن عفان الذي ثبته المُسلمون خليفة لهم بإجماع لم يُشهد مثيلٌ له، وهو ما اقتدت به العائلة المالك التي نفَّذت أسلس انتقال للسلطة في زماننا هذا والذي لم يستغرق سوى سويعات لا تكاد تُعد، فكان ذلك امتداد لما عُرف عن جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- من الحكمة والأناءة وتغليب مصلحة المُواطنين وجرأة المواقف ونشر التسامح والوسطية والواقعية السياسية في مُقاربة أعصى الملفات الإقليمية والدولية ووأد الفتن، كيف لا وهو الذي حافظ على وحدة بلاده في زمانٍ تشظَّت فيه الدول وسرت في أوصالها الفتن ما ظهر منها وما بطن، ذلك فضلاً عن نشره الحريات بكل مساقاتها الدينية والشخصية، فصارت عُمان في عهده أفضل مكان لمعيشة النساء بفضل ما أولاه لهن من عناية ورعاية فقد مكنهن من كل حقوقهن التي كفلتها لهن المواثيق الدولية والاتفاقيات فصارت المرأة في عهده الوزيرة والنائبة البرلمانية والسفيرة والقيادية في كافة أسلحة السلطان المسلحة وغيرها، فضلاً عن بسطه لمظلة الصحة والتعليم في كل ربوع الوطن وهو القائل:" سنُعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر" وقد كان ما أراد بفضل توجيهاته السديدة وإرادة لا تلين ومتابعة لصيقة من قبل جلالته لكل شاردة وواردة.

 برحيل السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه- فقدت الأمة الإسلامية والعالم أجمع قائداً حكيماً، وفياً لقضايا أمته، أميناً على مصالح شعبه، مُغلباً للمنطق والحكمة والاتزان في القول والفعل، ولكن لا يسعنا إلا أن نقول ما يُرضي الله ورسوله، إنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يغسله بالماء والثلج والبرد وأن ينقه من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأن يحشره من الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

تعليق عبر الفيس بوك