من وحي اللحظة العمانية الراهنة

د. مجدي العفيفي

 

(١)

كل هذا الحب؟ نعم وأكثر..!

كل هذا الوفاء؟ نعم وأكثر.. !

كل هذا الولاء؟ نعم وأكثر..!

كل هذا الانتماء؟ نعم وأكثر..!

نعم من الصعب أن تخفض حاجب الدهشة والتعجب والإعجاب وأنت تحدق بلا عناء في ثنايا اللحظة العمانية المتعينة بتاريخيتها واجتماعيتها (11 يناير 2020) وفي حزنها والشعب العماني يودع سلطانه قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- الذي عاش من أجله أكثر مما عاش لنفسه؛ عبر عنفوان نهضة خمسين عاما.. وفي حسنها والشعب الوفي يستقبل سلطانا جديدا يمتلك صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الامانة. إنّها لحظة فارقة استوعبها الشعب العماني بكثافة حاضره وعصره، وعمق حضارته وتاريخه، في مشهد تابع فيه العالم عملية ‏الانتقال السلس للحكم إلى جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، بل وعلى الهواء مباشرة وبموافقة الجميع أيضا.

(٢)

لحظة عمانية حيّة محمّلة بالدلالات تبادلها القائد والمواطن عبر خمسين عاما، ذلك الإنسان الذي وصفه جلالة السلطان قابوس رحمه الله بقوله: "لو أستطيع أن أكسي شعبي ذهبًا لكسوته، فهو يستحق، وما يهون حد يكدره".

إنّ حاكمًا يقول مثل هذه الكلمات لهو إنسان يدثره الله برحمته، ويلقي عليه من محبته، ما يجعله رحيمًا بشعبه، محبًا له، رؤوفًا به، عزيزًا عليه ما لاقاه من عنت الجمود ردحًا من الزمن، ومن جبروت ركود أخرجه من العصر إلا قليلا.

وإنّ شعبًا يقول عنه زعيمه مثل هذه الكلمات المضفرة برحيق الإخلاص، لهو شعب ليس بمستغرب منه أن يفيض بكل هذا الولاء، ويجيش بكل هذا الانتماء، ويتمتع بكل هذا الوفاء، إزاء الحاكم الحريص عليه أكثر من نفسه، وهو صاحب النفس المطمئنة الموصولة بربها والمتصلة بشعبها.

وإنّ أرضًا أنجبت حاكمًا وزعيما مثل السلطان قابوس بن سعيد، وأظهرت شعبًا ذا معدن أصيل مثل الشعب العماني، لهي أرض تنبت طيبًا، بل لا تقبل أن تنبت إلا طيبًا.

بهذه الروح الإنسانية الثرية.. وبهذا القلب الفياض حبًا وحنانًا.. وبهذا الفكر المحدق في الأفق البعيد صهيلا وعنفوانًا.. كان السلطان قابوس يزهو بمحبة شعبه العزيز وينبض احتواءً لأمته، فيستظل به أهله وناسه و"قابوس والناس".. قصة حب عمانية سيخلدها الزمن للأجيال والأيام وكيفية تشكيل العلاقة بين الحاكم وشعبه.

(٣)

في هذه اللحظة العمانية الراهنة تتناغم عمان دولة وشعبًا ومجتمعًا تخفق بأجنحة النهضة المستمرة، تصفق بالبشارات المنتظرة، وتومض بالإشارات ذات السعة في كثافتها، والنفوس تمتليء بالأمان والأمل، والعيون في حاضرها ناضرة، وإلى غدها ناظرة، وبمستقبلها مستبشرة، وإلى وجهتها ساعية لمزيد من دفقات النور والجمال والإقلاع نحو المستقبل، إنّهم شعب دولة ذات شخصية جادلت الزمن، وحاورتها الأيام، واتخذت منها الأحداث مسرحًا لاكتشاف معادن الشعوب، على تعاقب الأزمنة، باعتبار أن التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض، وأنه قد أوقف عليها رجالا أضافوا إليها الكثير بأعمالهم ومآثرهم.

فليس بغريب أن تقدم عمان ذاتها إلى العالم بهذا التشكيل الحضاري في الحكم والسياسة، من خلال حيوية الانسان بإنسانيته وكرامته ومواطنته ووطنيته.. والأرض بتاريخيتها وجغرافيتها، وخيراتها وخبراتها، وآثارها ومآثرها، وأنعمها ونمائها.. والوطن باتساع معناه ومداه، وبحدوده وجذوره، وبما فيه ومن فيه.. كل أولئك يشكلون أضلاع المثلث العماني للخطاب العماني في كل مساراته.

هذا الشعب العماني الأصيل عاش له السلطان قابوس أكثر مما كان يعيش لنفسه، فالشعب كله هو الذي شغل فكره وتفكيره، وملأ وجدانه وقلبه، هذا القلب الذي احتوى كل شيء في عمان، حين احتوى الإنسان، وأوقد فيه جذوة الروح، فاشتعل عطاءً، وانفعل بصوت النهضة وتفاعل مع عنفوانها، إنها الرسالة التي جعلت السلطان قابوس يوقف عمره وفكره لترجمتها فكرًا يجادل الواقع جدلا علميًا وعمليًا، بالمعنى الفعال للعلم، وبالفعل الخلاق للعمل: "لست صاحب سلطة بل صاحب رسالة".

(٤)

تتفرع ثنايا اللحظة ويتلقى الشعب العماني والعالم معه نبأ تنصيب جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه- سلطانا لعمان، تأسيسا على رد مجلس العائلة المالكة إلى مجلس الدفاع للمغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله-، وبقناعة راسخة، بتثبيت من أوصى به جلالة السلطان في وصيّته، إيمانًا من مجلس العائلة المالكة بالحكمة المعهودة والنظرة الواسعة لجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، عرفانًا وامتنانًا وتقديرًا له وقد أوكل مجلس العائلة المالكة لمجلس الدفاع القيام بفتح الوصية وفقًا لما نصّت عليه المادة السادسة من النظام الأساسي للدولة، واتخاذ الإجراءات لتثبيت من أوصى به جلالة السلطان.

وشهدت اللحظة العمانية الراهنة ذات الحساسية الفائقة تنصيب جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور وأدائه قسم اليمين في يوم السبت الخامس عشر من جمادى الأولى لعام 1441هـ الموافق الحادي عشر من يناير لعام 2020م في جلسة مشتركة لمجلسي عُمان والدفاع تنفيذا لأحكام المادة السابعة من النظام الأساسي للدولة.

(٥)

وفي أول مفردة للخطاب السلطاني الجديد، تجلت- مبدئيا- عدة إضاءات جديرة بالتوقف والرصد والتأمل والتأسيس؛ أولها.. التواصل والتأكيد على تسلسل الأجيال وهي قيمة يتمثلها المجتمع العماني في مساراته وتحولاته، فلا تنقطع الوشائج إنما تتواصل جيلا بعد جيل، لتستمر المنظومة في تفاعلها وتكاملها، يشد حلقاتها الوفاء ومن ثم تحلى الخطاب بذكر الوفاء لرجل بنى دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني وشيد نهضة راسخة تجلت معالمها في منظومة القوانين والتشريعات التي ستحفظ البلاد وتنظم مسيرتها نحو مستقبل زاهر أراده لها وأقام بنية أساسية غدت محطة أنظار العالم.

ثانيها .. ان الخطاب موجه إلى ( أبناء عُمان الأوفياء) وهو التعبير الذي تكرر أكثر من مرة في سياقات عدة، ومن ثم فقد أكد على أن "الأمانة الملقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة فينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدما نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل ولن يتأتى ذلك إلا بمساندتكم وتعاونكم وتضافر كافة الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى وأن تقدموا كل ما يُسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء".

ثالثها.. ترسم ملامح الشخصية التي تبقى من الشخص، وهي الأطول عمرا والأبقى أثرا، في سياق الاستمرارية في السير على نهجه القويم والتأسي بالخطى النيرة التي خطاها جلالة السلطان الراحل بثبات وعزم إلى المستقبل والحفاظ على ما أنجزه، وكان جديرا بالانتباه في كلمة جلالة السلطان هيثم بن طارق إشارته التأكيدية على اعتزام السير في طريق الإنجاز "والبناء عليه" لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق، عبارات محملة بالصدق والمصداقية والوفاء.

ورابعها.. التأكيد على الثوابت العمانية وتحسب المتغيرات، وهذا شأن الفكر السياسي والحضاري في مضمار صناعة الدول وتثبيت وعي الشعوب، بالإشارات الدالة على ثبات الرؤية العمانية للمواقف العربية والإقليمية والدولية، مما لا تتسع لاستعادته في هذه السطور، وهو أمر كان من شأنه طمأنة العالم على تلك الثوابت، فكان بمثابة رسالة محددة المعاني ثابتة الدلالات.

وخامسها.. إن خطاب التنصيب احتوى الإنسان بكل تجلياته الإنسانية من الهوية إلى المواطنة إلى الوطنية إلى المشاركة الشعبية، واتخذ منه الوسيلة والغاية معا، وهذه ركيزة أساسية وتأسيسية في الخطاب العماني في كليته وفي خصوصيته منذ إشراقة فجر النهضة عام 1970 و"إنسانية الإنسان" هي شفرة من الشفرات التي تنتظم جماليات المجتمع العماني في تشكيله المعاصر الذي تجري في أرجائه هذه القصة، وأحد أهم القواسم المشتركة في الخطاب العماني بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل لا تخلو وحداته من إشارة جوهرية إلى المواطن دورًا ووظيفة، وسيلة وغاية، فتربط بينه وبين الأرض تاريخا وجغرافية وحاضرا وحضارة بإنسانيته وكرامته ومواطنته ووطنيته، تتقابل لتتكامل وتتماس لتتفاعل معادلاته فتشكل منظومة الذات العمانية، بأنفسها وآفاقها ويتجلى الخطاب العماني بهذه المعاني، تشكيلا ودلالة.

(٦)

إنّ من أسباب التوفيق والتفوق في هذه اللحظة يكمن في تلك المكونات الحضارية للشعب العماني، وجذوره الضاربة في عمق الزمن، وأصوله الممدودة في التاريخ، وفرق هائل بين الشعوب التي تستند إلى جدار حضاري لا ينقض ولا ينبغي له، والشعوب التي تعيش على هامش التاريخ، وويل لشعوب جذورها في الهواء..!

وهنا في عمان يشتبك الحاضر بالحضارة، والأصالة بالمعاصرة، والتاريخ بالجغرافيا، ويشغل الشعب صاحب هذه المكونات مكانة يستحقها على خريطة العالم، وهذا محال أن يتم بين عشية وضحاها، بل يحتاج مجاهدات شاقة وهو ما حققته النهضة العمانية الحديثة، وتشي به هذه المقدمات الأولية للنقلة النوعية المرتقبة للمجتمع والدولة في سلطنة عمان.

(٧)

في حضرة جلال لحظة وداع السلطان قابوس بن سعيد إلى مثواه الأخير لا تملك النفس إلا أن تتلو من الذكر الحكيم هذه الآية الكريمة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)، صدق الله العظيم.

(٨)

ويتضرع القلب إلى الله العلي القدير أن يكلل عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق بالنجاح والفلاح، ويمنحه القدرة على مواكهة التحديات في هذه الأونة من العصر وفي هذ المرحلة من مسيرة العالم، ويهبه المقدرة على المواكبة لخير الإنسان والزمان والمكان في عمان.

(٩)

وسلام على عمان بما فيها ومن فيها. وسلام قولا من رب رحيم.

تعليق عبر الفيس بوك