وإنَّا لأمانتك لحافظون

عباس المسكري

المشاعر الصادقة أيقونة ثابتة تحكي عُمان التي وإن رحل بانيها جسدا، إلا أن له في كل شبر وكل زاوية وفي كل معلم بصمة وقصة كفاح، لا يمكن للزمن محوها، نعم رحلت سلطان قلوبنا جسدا ولكن لم ترحل روحك التي أصبحنا مرتبطين برباط مشيمي بها، فتجعلك حاضرا فينا لا تفارقنا ونتغذى من دروسك ونستقي رؤانا من لدن نفحاتك، رحلت جسدا ولكن جعلت العالم من أقصاه إلى أقصاه يقول لك بجميع اللغات والأعمار والأديان لم ترحل وأنت الذي أسست دولة في كل شبر فيها نرى خارطة التسامح وعليها دروس الحكمة، ولم تكتفِ بتعليم أبنائك بل جعلتنا نتعلم منك ما لم نتعلمه في حياتنا.

كيف لا يبكيك العالم بمعيتنا وأنت الذي جعلتنا وعُماننا قبلة العالم الحضاري الذي يعكس أخلاقيات أمة راسخة وحضارة ممتدة تترجم أصالتها على هيئة أفعال لا أقوال وعمل بدون ضجيج، لن نستغرب أن تحدث عنك أهل الأرض بكل هذا الصفاء؛ لأننا لمسناه وعشناه خمسين عام، وتدثرنا دثاره حتى اختزلته أجسادنا فأصبح جزءا لا يتجزأ منا.

إنَّ الثامن عشر من نوفمبر لم يكن لدى العمانيين يوما عاديا، بل هو يوم خلده التاريخ في قلوبهم؛ ففي هذا اليوم من عام 1940م ولد وطن في وطن، في هذا اليوم المبارك ولد المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته- وفي كل عام منذ خمسين عاما تشرق شمس يوم الثامن عشر من نوفمبر في قلب كل مواطن عماني.. إنَّه اليوم الذي وبكل فخر واعتزاز نقول إننا ولدنا فيه، يوم سجل فيه التاريخ ميلاد شعب في صدر الشمس، اليوم الذي ولد فيه سيد عمان وقائدها ومؤسس نهضتها المباركة.

ولم يكُن الثالث والعشرون من يوليو أقل شأنا لدى العمانيين؛ حيث في 23 يوليو 1970 أتى فارس عمان الأول على صهوة جواده مناديا بأعلى صوته: يا شعبي العزيز إني قادم لكم ولأجلكم، من أجل عمان التاريخ والحضارة والعراقة. ولبَّت عمان النداء من أقصاها حتى أقصاها، إنه يوم المجد العماني، يوم بزوغ شمس النهضة المباركة. اليوم الذي تربع فيه قابوس المجد على عرش قلب كل عماني اليوم الذي أتى فيه فارس السلام على صهوة جواده حاملا شعلة العلم ومعول البناء ليرسي قواعد التقدم والازدهار.

خمسون عاما وهو يحمل على كاهله همَّ وطن ومواطن، فمنذ عز شبابه كان لنا الأب والأخ والصديق وسهر الليالي وقطع البراري تاركاً القصور ورفاهيتها خلفه ومن أجل وطنه ومواطنه. كان يجوب الصحاري ليقضي الشهور في خيمة من أجل أن يكون قريبا منا، وفتح لنا قلبه قبل أذنيه ونصت لنا جميعاً. ووقف مع الكبير وانحنى ليسمع الصغير، شمر عن ساعده، وتنقل من مشروع إلى مشروع ليتابع مسيرة البناء لهذا الوطن الذي أخرجه من عالم الجهل والظلام إلى عالم العلم والنور، داهمته العلل والأسقام وتحمل كل ذلك من أجل أن يجعل من دولته وطن للمحبة والسلام، مد جسور الصداقة والمحبة واستطاع أن ينجو بوطنه من تيارات الفتن، وجنَّبها ويلات الحروب في زمن تعاني منه البلدان وتقاسي فيه الشعوب، وجعل من عمان واحة للأمن والأمان وغدت مرتعا للود والوفاق، احترمته الشعوب قبل الحكام، ورافق اسمه كل معزوفة سلام، أحبه الجميع وتمنوا أن يكون لهم ولياً للأمر. عشقوه عشقاً لم يحظَ به سلطان ولا حاكم من قبل، وعندما قدر الله له أن يُصاب بوعكة صحية أقيمت الصلوات من أجل الدعاء له في كل مسجد ودير، وفي كل شبر في هذه المعمورة، وكل على حسب ديانته؛ لأنهم يُؤمنوا بأنه رجل الإنسانية وحكيم الأمة بأكملها، ويؤمنون أيضا بأنَّه الوحيد الذي استطاع أن يجعل من وطنه معشوقًا للجميع في هذا الزمان الذي قل ما تجد فيه شخصا مثله بذكائه وحكمته وحنكته؛ فهو الرجل الذي حمل فكرا ثاقباً وبعدَ نظر في سياسة السماحة والتوازن.

خمسون عاما وهو يهب كل حواسه من أجل عمان وأبناء عمان؛ فلقد أولاهم كل اهتمامه، بل جعل سعادتهم فوق كل شيء، وعمل ليلا ونهارا من أجل الوطن والمواطن، جاعلا من أمن عمان ومواطنها وكل من داس ترابها مسؤولية على عاتقه يسهر الليل وعيوننا في عز نومها من أجل الحفاظ على أمنها واستقرارها؛ فحكم وعدل وأسس الدولة المدنية العصرية، دولة القانون والمؤسسات، وما كان قصره إلا كعبة لكل مضيوم وكل ساعٍ للسلام، فلقد طرقت أبواب قصوره من أجل أن يلقى على كاهله حل كل القضايا الشائكة، ولم يأتِ إليه أحد إلا وخرج يحمد الله على أن وهب لعمان والعالم أجمع سلطانًا بحكمته وحنكته؛ فلقد كان يحتضن الخصماء في حضرته، فأعطى دروسا في التسامح للقريب والبعيد.

مثلما كانت تشرق شمس يومي الثامن عشر من نوفمبر والثالث والعشرين من يوليو في قلب كل عماني شاءت الأقدار أن تأفُل شمس قلوب العمانيين في العاشر من يناير 2020م.. إنه يوم البؤس العماني الذي ترجل فيه الفارس الأبي عن فرس؛ فلقد كانت مشيئة الله وأتى وقدره ونفذ حكمه وفاضت روح سيد عمان إلى بارئها، ومثلما كان في حياته يعلمنا والعالم أجمع دروسًا في التواضع والبساطة والتسامح، علمنا عند وفاته درسا عظيما عندما أراد أن تكون جنازته بتلك البساطة، وهو السلطان الذي أبكى موته قلوب الجميع. نعم، عندما أتى إلينا فارسا منقذا ليقود عمان إلى مصاف الأمم، قال أنا أتيت لكم ومن أجلكم واليوم عندما يوارى جثماني التراب لا أريد أن يواريه إلا أنتم.

الحمد والشكر لله على ما نحن عليه، فلقد وهبنا سلطانا تعلمنا واستلهمنا من فكره القيم والمبادئ ولغة وأبجدية السلام، وسنحملها أمانة في أعناقنا، وسننطلق بها نحو العالم في كل شبر في هذه المعمورة.. إنها الرسالة التي باحت بها لنا أمهات أفكاره وتعلمناها من مدرسته وانتهجناها بنهجه، وآمنا بها وقدسناها وسنحملها باسمه لأنه آمن بالسلام وكان له عقيدة ومنهج، وسنستمد طاقتنا من فكره ونستلهم سماحة نفسه، فلقد كان الأب والمعلم، وإنها لدروس علينا أن لا ننساها ما حيينا، بل علينا توثيقها للاجيال القادمة.

طيب الله ثراك سلطان قلوبنا، لقد ربَّيت وعلمت وبريت.. ونعاهدك أمام الله أنَّ عمان أمانة في أعناقنا، فكيف لا نكون أمناء على أمانتك، وكيف بنا لا نسير على نهجك.. ونبارك لعُماننا من اخترته أبا لنا ونحن على ما عهدتنا وولائنا ماضون، وإنا لأمانتك لحافظون، ولا نملك إلا التضرع إلى الله بأن يُلقي رحمته عليك ويثيبك عنا خير الجزاء، وأن نقول الحمدلله كما قالها سيدنا آدم، وكما هي أول كلمة في القرآن الكريم، وأفضل الناس يَوم القِيامة الحامدون، اللهم لك الحمد والثناء على نعمائك التي أنعمت بها علينا إذ ألَّفت بين قلوبنا، ونزعت منها الغلو، وزرعت فيها المحبة والسماحة والألفة.. اللهم إننا شعبٌ نؤمن بوحدانيتك وعظمتك، ونتوسل إليك بعظيم أسمائك أن تغفر لوالدنا وقائدنا وسلطان قلوبنا جلالة السلطان قابوس، اللهم آنسه في وحدته ووحشته وغربته، وأنزله منازل الصدّيقين، والشّهداء، والصّالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

تعليق عبر الفيس بوك