بين سلطانين.. عمان تبقى عظيمة

 

د. سيف بن مبارك بني عرابة

لطالما نُعِت العمانيون بالسمت والهدوء، والبُعد عن الصخب والضوضاء، وإن كنّا كذلك وهذا من فضل الله علينا، فالتؤدة والأناة صفتان لا تطبعان على نفس إلا زدنها رزانة ورجاحة عقل، وإن كان العمانيون متّئدين في كل أمورهم، متأنين في اتخاذ قراراتهم، فإنَّ مثل هذه الصفات تختبر عند صدمة النوائب، وتتجلى في عظميات المصائب.

فها هو ذَا العماني يثبت أنه ليس وليد الأمس بل وريث حضارة عريقة ومجد عتيد، فما إن أتت الشائعات بأنَّ صحة السلطان الراحل قابوس بن سعيد المغفور له بإذن الله تعالى تسوء، تراه يتحرى صدق ما يُشاع ويضرب بأخبار الفسّاق عرض الحائط ليتبين أن يصيب أمرا بجهالة فيكون من النادمين، وانتظر حتى يصدر بيان الاطمئنان، فسكنت الروح واطمأنت النفس، وخاب من روّج للشائعة وخسر، وما أن أعلن خبر وفاته - رحمه الله تعالى - حتى أنجلى معدن هذا الشعب الأبيّ، فأظهر هدوءًا وتماسكًا باتا مضرب المثل، فلم يفككه النعي على ثقله، ولم يشتت شمله الفقد على عظمه، بل إن ذلك زاده تلاحماً وترابطًا، وكأنه المعدن الأصيل يذهب درنه وينجلي بالشدة والصهر، فتوحدت الكلمة وارتفعت أكف الضراعة والدعاء، ترحماً وطلب عفو عن الوالد الراحل، الذي وحد عُمان من أقصاها إلى أقصاها، وانتشلها من وحل الجهل، وخلصها من تعصب القبيلة والمذهب، ولم يعلُ صوت يسأل عمن ستؤول إليه السلطة، ومن سيكون القائد القادم، فكل فرد من هذا الشعب العظيم موقن أن الأمر سيسير بسهولة ويسر، بحكم المخزون الحضاري الذي تمتلكه هذه البلاد، والذي هو في نمو متسق، ونضوج مُستمر.

إنَّ المتأمل في مراسم تشييع فقيد الوطن قابوس بن سعيد - رحمه الله تعالى - ليلفت نظره عدة مشاهد، ويستلهم الكثير من الدروس، ينبغي أن يقف عندها كل ذي لب، ليأخذ العبرة ولتتأصل عنده عظمة هذا الوطن وتجذر حضارته، فرغم أنَّ المشيَّع كان عظيماً وله قدر عظيم بين أبناء شعبه ويحق له مراسم تشييع ضخمة وجنازة يحضرها ملوك الدول وحكامها، إلا أنَّ القائد الراحل أبى إلا أن تكون مراسم تشييعه متواضعة ورمزية رغم مهابتها وعلو قدرها، فصلى عليه أقاربه من العائلة المالكة الكريمة والمسؤولون بالدولة جنباً إلى جنب مع أبناء شعبه، يشد بعضهم على أيدي بعض، في مظهر يبعث في النفس الاطمئنان على مستقبل هذه البلاد، ثم حملت الجنازة على أكتاف أقارب السُّلطان الراحل وقادة الأسلحة العسكرية يتقدمهم جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه، فسارت في مهل وهيبة، لم يمنع أحد من أن يتبعها، حتى وصلت إلى مقبرة العائلة المالكة، ليوارى جثمان الفقيد الراحل في قبر بسيط، كما يدفن العُماني أخاه، غنياً كان أم فقيراً، حاكماً أم محكوماً، دون تكلف ولا علامات تضخيم وتهويل، عملا بالسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وسيرًا على نهج السلف الصالح.

ثم إننا في عُمان لطالما انتُـقدنا على عدم وجود منصب ولي عهد في الدولة، رغم أنَّ هذا المنصب لم يكن موجودا على مدى تأريخ الدولة العمانية، فالحاكم كان يعين بالتشاور والتوافق، وباجتماع أهل الحل والعقد، لا بالتوريث الصرف كحال الكثير من الدول، فراهن مثيرو الفتن والقلاقل على عدم وجود هذا المنصب، خصوصا في فترة شغور منصب السلطان بوفاته، وأنَّ هذا الأمر سيؤدي للفتنة والتشتت، واهتزاز أركان الدولة، وقد يكون هذا حقيقة إذا كانت الدولة من الدول حديثة النشأة، أو التي تشهد اضطرابا وتخلخلا داخليا، لكن عند الحديث عن عمان فهذا مستبعد بل قد يكون حاله حال الغول والعنقاء في الاستحالة، فلم تنقضِ خمس ساعات على شغور منصب السلطان إلا وقد عُين حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد سلطانًا لعمان، فوئدت الفتنة وهي في مهدها، وأثبت النظام السياسي في سلطنة عُمان صلابته وتماسكه وقدرته على تجاوز الأزمات، وجدارته بالسير قدماً بهذا الوطن إلى بر الأمان وفي أحلك الظروف، بل أكاد أجزم أن كثيراً من البلدان ممن لديها ولي عهد مُعين، تغبطنا على هذه السلاسة في انتقال الحكم.

وأخيرًا .. الحمد لله من قبل ومن بعد، هكذا هو شأن الدول العظمى، انتقال سهل للسلطة، بعد اتفاق أعضاء الأسرة المالكة الكريمة، ثم تقبل رسمي وتكاتف شعبي - يضرب به المثل - حول السلطان الجديد.. رحم الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد، وألهم جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- الحكمة وبُعد النظر.

 

تعليق عبر الفيس بوك