قابوس.. حكيم الأمة

أسامة محمود

جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- رحمك الله وأدخلك فسيح جناته... لَكَم كُنتُ أمنِّي النفس بأن أكتب هذه الكلمات في حياتك، لعلَّ عينيك الكريمتين تزيدهما شرفًا بقراءة مضامينها ولو صُدفَة، كالصُّدفة التي صافحتُ فيها يديك الكريمتين قبل 27 عامًا، حينما شاءت أقدار المولى -جلَّت قدرته- أن ألتقي بمقامكم السامي حينها تحت حرارة شمس صافية في أجواء رمضان الروحانية.. أذكر تاريخ ذلك اليوم وتفاصيله وكأنه اليوم.. إنّه 6 فبراير 1994م، بقصر حي الشاطئ في صلالة، وقتها كنتُ صحفيًّا في مجلة "الأضواء"، ونلت شرف مرافقتكم - طيب الله ثراكم- بصعودي إلى سيّارتكم الخاصة، وتفقدكُم لحالي وحال الإخوة والأحبة (كما وصفتهم) في بلادي جمهورية مصر العربية.

لقد كان يومًا فارقًا، ليس لأنني كُنت أجلس إلى جوار جلالتكم دون أية حواجز، وعلى كرسي لا يبعده عن مقامكم سوى سنتيمترات لا تُذكر.. وإنّما لأنني كنت في حضرتكم، وهي حضرة العلم والحكمة والثقافة والرُّقي، حضرة الأخلاق الحسنة والسيرة العطرة وطيب المعشر، حضرة العزائم الصادقة والنَّفْس التي لا تريد من الدنيا سوى مصالح أبناء هذا الوطن والمقيمين على أرضه، حضرة السلام والدبلوماسية الرائدة، حضرة سلطان وارى الثرى اليوم جثمانه الطاهر، فنَعَتهُ السماءُ بسيلٍ منهمر، بكتهُ القلوب قبل العيونُ، مواطنين يدينون لك بأعمارهم وازدهارهم وتنميتهم، ومقيمين اجتمعوا على أرض هذا البلد فكانت لهم وطنًا، الكل أجمع على حقيقة واحدة وهي أنك رمزٌ للحاكم العادل الأمين، الأب الحاني العطوف، الإنسان الراقي الخلوق، السند والعضد للأخوة، والصديق الودود للعالم أجمع.

ما قيل من قبل، وما يقال اليوم، وما سيقال بعد ذلك، بكل أمانة لن يكون كافيا أو وافيا لذكر مناقبكم قبل رثائكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -تغمدكم الله بواسع مغفرته- لقد قدَّر الله لي أن أعيش في عُمان ما يزيد على ثلثي عُمري، كانت بمثابة شهادة على رحلة بناء وطن قد يغيب عن الكثيرين من أجيال اليوم تفاصيل الكثير والكثير عنه، شهادة على تعمُّق مشاعر الحب والولاء بين القائد والمواطن، عذراً أقصد علاقة الأب بأبنائه، والأرقى في هذه المشاعر أنك كنت تعتبر جميع من يقيم على هذه الأرض الطيبة بمثابة أبنائك، بل إنها أكبر من فكرة أب وأبناء. وبلا شك، فما فاضت به قلوب وعيون ومشاعر الجميع يوم السبت الماضي تغني عن كثير من الكلام.. إنّه شيء أكبر من أن يفهمه من لم يعش هنا على أرض عمان، ولا يمكن شرحه لمن يتساءل بتعجُّب عن فحوى وكنه هذا الحب العميق الذي يسكن قلوب العالم لكم والعشق الذي يتملك القلوب.

واليوم أجدني وبعد عمرٍ قضيته في مجال الصحافة، أعترف بأنّ الكلمات لم تعد تسعفني، والأفكار لا تجد طريقها إليَّ، ولأول مرة أستشعر كم هي مؤلمة كلمات الوداع والرثاء، فهي لا تقوى على أن تختزل ما يجيش في الصدور.. فالله أعلم بما فيها، وهو وحده القادر على أن يتقبلك في الصالحين مع النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقًا.. فلترقد في أمان الله محفوفًا بواسع رحمته.

تعليق عبر الفيس بوك