حميد بن مسلم السعيدي
أثبتت عُمان أنَّها دولة عظيمة بأفعالها ومكانتها بين الأمم، أثبتت أنها دولة رصينة وقوية بسلاطينها ومواطنيها، وقفت عُمان تكتب للتاريخ ملحمة عظيمة في أشد المحن والمصائب، أتثبت للعالم أنَّها دولة الحضارة وترسم لوحة للتاريخ تبقى حكاية تكتب من أجل أن تبقى للأجيال والشعوب المختلفة، فقد قدمت عُمان درساً ممنهجاً خططه المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- بما غرسه من حب وولاء وانتماء للوطن لدى أفراد العائلة المالكة وأبناء شعبه العزيز..
فقد علمنا جلالة السلطان الراحل الحكمة التي أصبحت اليوم منهجًا نمارسه في حياتنا، الحكمة هي التي أدارت عملية انتقال ولاية الحُكم إلى جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-.
الساعات كانت أعواماً والمحن أتعبت القلوب ألماً، والشوق أثار الشجون في أرواح العُمانيين، الذين صبروا واحتسبوا لله عزّوجلّ في فراق أغلى الرجال وحبيب القلوب، كانت الدموع تُعبر عن ذات الحُب العميق في نفوسهم، لتُعبر عن ذلك الارتباط العاطفي الذي عجز الكثيرون عن تفسيره، وعجزوا عن فك طلاسم هذه العلاقة الجياشة بين الإنسان والأرض والقائد، عجزوا عن فك طلاسم هذا الصمود من أجل وحدة الوطن وأرضه ومكانته، الصمود من أجل أن نكون على العهد الذي قدمناه لجلالته في حياته، لذا نحن صامدون لأننا نوفي ذلك العهد بأن نكون حراساً لهذا الوطن، لتنفيذ وصية جلالته، ونحفظ العهد ونقوم بالواجب الوطني، خمسون عاماً من الحكم العادل والمتسامح، خمسون عاماً من العمل من أجل عُمان، خمسون عاماً من العلاقة بين القائد والمواطن، خمسون عاماً لحكم جلالته كانت نبراس العمل والمستقبل لعُمان، فالمصاب جلل، والموقف صعب على أبناء هذا الوطن، ولكننا ومن أجل هذا الوطن نظل صامدون متمسكون بالإيمان بالله تعالى وبقضاء الله وقدره.
واليوم أثبتت عُمان أنها دولة تكتب للتاريخ عندما أكد مجلس العائلة المالكة على الثوابت العظيمة التي غرسها فيهم جلالته- رحمه الله- والقائمة على حب الوطن، والعمل من أجل المصلحة الوطنية، وتكريمًا لمكانته بينهم، فإنهم اتفقوا على تثبيت ما ورد بوصية جلالته.
مرَّت عملية انتقال ولاية الحكم بفتح وصية جلالة السلطان قابوس بن سعيد-طيب الله ثراه-، وفقاً لما ورد بالنظام الأساسي للدولة من مواد وأنظمة واضحة في انتقال ولاية الحكم، وقد طبق النظام لأول مرة في انتقال ولاية الحكم بكافة بنوده، مما يُؤكد على مدى التزام الحكومة بهذا النظام، الذي يؤسس الحكم في عُمان، حيث إنَّ وصية جلالته تشير إلى اختيار جلالة السلطان هيثم بن طارق، وفقاً لما ورد فيها "وذلك لما توسمنا فيه من صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الأمانة، وأننا نضرع لله العلي القدير أن نكون عند حسن الظن الذي دعانا إلى اختياره، والثقة التي دفعتنا إلى تقديمه، فإننا ندعوكم جميعاً إلى مبايعته على الطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأن تكونوا له السند المتين والناصح الأمين معتصمين دائماً تحت قيادته بوحدة الصف والكلمة والهدف والمصير، متجنبين كل أسباب الشقاق والفرقة والتناحر والشقاق والتنابذ والتناحر، عاملين بقوله تعالى "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصية (المغفور له) جلالته الأخيرة والتي دعاء فيها العائلة المالكة والشعب العُماني إلى الوقوف خلف حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه- ومبايعته على الطاعة، والدعوة إلى وحدة الصف العُماني تحت قيادته، فقد كانت رسالته الأخيرة التأكيد على عُمان ثم عُمان ووحدتها أن تبقى كياناً واحداً متمسكة بوحدتها وشعبها العزيز، والابتعاد عن كل أسباب الشقاق والفتن، دعوة صادقة من أب حنون أراد لهذا الوطن كل الخير، ورحل عنه وهو يُؤكد على الوحدة الوطنية، وعلى الصف الوطني، ونحن إذ نُعاهد الله بأن تبقى عُمان في قلوبنا للأبد، وأن تبقى يا مولاي ملحة في قلوبنا متمسكين بعهدنا وولائنا وندائنا للوطن، لذا ودعنا جلالته وقد رسم مسار المستقبل لهذا الوطن، فقد كانت حياته لأجل عُمان، ومماته من أجل عُمان.
هذه التربية الأبوية التي غرست فينا طوال نصف قرن تحت رعايته وحكمته وسياسته التي كانت قائمة على التسامح والسلام، كان يتعامل مع أبناء شبعه كأب مهما قصرنا بحقه فقد كان متسامحاً مع الجميع، هكذا هم سلاطين عُمان على مر التاريخ فهذه دولة الحضارة ودولة عائلة تحكم عُمان منذ 1744 أكبر عائلة عبر التاريخ تحكم بهذا العمق المُتجذر في عُمان، تثبت مدى رضا المواطنين عن العدالة والمساواة التي تتحقق على أرض الواقع، مما أسهم في تماسك الوطن وحدته طوال تلك الفترة، هذه العائلة التي تحكم كل هذه السنوات كتبت تاريخاً لعُمان، تاريخ دولة عريقة في عمق الحضارة، قائمة على نشر العدالة والتسامح والسلام في كل الحقب الزمنية، واليوم تستكمل مسيرتها العظيمة في يوم تاريخي على عُمان، مرَّ ما بين الألم والحزن على فراق (المغفور له) جلالة السلطان قابوس بن سعيد وما بين انتقال لولاية الحكم لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-، لذا فإننا نُعاهد الله والوطن والسلطان بأن نعمل من أجل قيادته الحكيمة ونسير على النهج العُماني، ماضون دون شقاق أو فتن.
رحلت يا قابوس وقد اطمئن قلبك على هذا الوطن، رحلت ونحن معاهدين الله على أن نتبع نهجك ومدرستك وحكمتك، رحلت ونحن نثق في كافة المواطنين الأوفياء الذي يضحون بأرواحهم من أجل هذا الوطن، رحلت وتركت مدرسة في إدارة الصعاب والمواقف، رحلت وعُمان بعدك تقدم درساً في الصبر في أعظم مصيبة تعرضت لها، رحلت وعمان تقدم للعالم نهجاً في انتقال السلطة وفقاً لما تأسس في دولة القانون والمؤسسات، رحلت وعُمان تقدم نهجاً في الوحدة الوطنية التي لن تجد ثغراً لاجتيازها من الأعداء، رحلت وعمان تقدم ملحمة وطنية في اجتياز الصعاب والمحن، رحلت وهذه الأرض تستقبل جسدك الطاهر بروائح الجنة، والسماء تمطر بظلال الرحمة والمغفرة، رحلت والصمت يسود الوطن، رحلت والحزن هو راية عُمان، فقد أوجعنا الحنين إليك، وأوجعتنا قلوبنا شوقاً إليك، فما عاد بالقلب حُب إلا حبك، ولا حزن إلا حزن فراقك.
اللهم أرحمه بفيض رحماتك وواسع مغفرتك ورضوانك، اللهم أسكنه فسيح جناتك، عظَّم الله أجوركم أبناء عمان الأوفياء الكرام.