سوق المحللين الإستراتيجيين

غسان الشهابي

يمُور الخليج العربي بالأحداث الجسام على مرِّ التاريخ تقريبًا، ولكن الأمر تصاعد إلى الحد الكبير والمرعب أحياناً، مع تصاعد دور النفط الاقتصادي والسياسي، وتحول هذه البحيرة بالغة الملوحة إلى بحيرة بالغة الخطورة. دارت فيها أعتى الحروب في الأربعين سنة الماضية، أي منذ اندلاع حرب الخليج الأولى (سبتمبر 1980) وحتى اليوم.

أفرز هذا الحراك -من ضمن ما أفرز- المحللين السياسيين والإستراتيجيين الذين تنامى وجودهم في المشهد الإعلامي بتنامي المحطات التليفزيونية الرسمية والخاصة، والتي يعج بها الفضاء، وكذلك المحطات التي تبث على منصات مختلفة أيضاً، والمحطات الإخبارية منها في حالة جوع دائم لتغذية برامجها الحوارية والتحليلية بالمزيد من المحللين ومن كافة البلدان، ونظراً لاتساع هذه السوق، فإنه من السهولة بمكان أن تعثر المحطة على المحللين الذين يتوافقون مع رؤيتها وخطها التحريري، فليس هناك حياد في الإعلام، بل الفرق في مقدار المهنية في تمرير المواد بأقل قدر من "الفاقعية" التي تنفر الجمهور.. وربما أكون مُخطِئاً لأن الجمهور أيضاً ينتقي محطته فيريد أن يسمع ويرى ما يريد وما يتناغم معه!

العِلَّة الأساسية أن المحطات الكبرى قد تفوز بالنخب الأول من هؤلاء المحللين الذين هم على قدر كبير من المعرفة، ولديهم اتصالاتهم ومصادرهم المعلوماتية، ولديهم اشتراكاتهم في الدوريات التي تحلل الأوضاع وتنير الطريق، ولكن ماذا عن الصفوف الثانية والثالثة وما بعدها من محطات محلية أو شبه إقليمية؟ فإنه أيضاً تنتقي المدعين بالتحليل السياسي، والماهريين، أو أشباه المهرة، في صف الكلام، ورص العبارات الطنانة... هذا الأمر أغرى الكثير من الذين يطربهم الظهور على الفضائيات، ويسوقون لأنفسهم بأنهم سيكونون ضيوف المحطة الفلانية، والبرنامج الفلاني، مع نشر مقاطع من الثرثرة في شتى الوسائل، وشيئاً فشيئاً ينادى رسميًّا بالمحلل السياسي، والخبير الإستراتيجي... بعضهم قد "يحترم" نفسه بالتخصص في شأن معين، أو في منطقة بذاتها، وبعضهم يعمل عمل الجوكر في ورق اللعب، فأينما تريده يتحدث تجده جاهزاً، وهذا النوع الذي يسرح في حضرته المشاهد ليفكر في شتى أمور الدنيا والآخرة ريثما ينتهي من حديثه.

أرى أن على هذه المحطات التليفزيونية الصغرى التي تُريد مقارعة كبريات الشركات العالمية المليارديرية، المبتلعة لعدد من الشركات الإعلامية في إمبراطوريات هائلة لصناعة الرأي العام بالأساليب الحديثة، عليها أن تكتفي بقراءة الأخبار الواردة من وكالات الأنباء العالمية، بدلًا من أن تُفسح المجال للمغامرين الذين يرسمون لأنفسهم مكاناً هم ليسوا أهلاً له، ويهرفون بما لا يعرفون.