جنود المواطنة المجهولون

 

د. سيف بن ناصر المعمري

خير الجنود هم أولئك الذين لا يضعون على أعلى أكتافهم أيّة إشارات لتدل على الرتبة التي يحملونها؛ وتجلب لهم احتراما وتوقيرا ليس للعمل الذي يقومون به إنّما للرتبة التي يحملونها، فالعمل مرهون بوجود معركة يستطيعون أن يثبتوا فيها قدرتهم وكفاءتهم؛ ولكن خير الجنود هم أولئك الذين يعملون بدون رتب ولا شارات على اكتفاهم وبدون ألقاب أو مسميات، وبدون خناجر، وبدون كرسي أو مكتب واسع، به أثاث فاخر مستورد من الخارج، وشاشة تلفاز تعلو الجدار، وهواتف عدة هنا وهناك، يعملون على إدارة تداعيات أزمة بتجرد بدون أوامر من أحد أو نداءات أو توصيات من لجان، أو مجالس.

هؤلاء يعملون بدون انتظار مكافأة، يعملون بدون أن ينتظروا أن تسلط عليهم عدسات المصورين أو أن تحجز لهم الصفحات الأولى من الجرائد، أو أن يعرض لهم تقرير في نشرة الأخبار الرئيسية، هؤلاء الجنود متجردين من كل تلك المعوقات التي تحدهم من أن يخوضوا معركة وطنية لمساعدة إخوة لهم تعرضوا لظروف صعبة؛ وأصبحت حياتهم نتيجة ذلك في مهب الريح، تعصف بها الأنواء من كل الاتجاهات.

نحن بحاجة لأن نحتفل بهؤلاء الجنود المجهولين، الذي بثوا الفرح داخل أنفسنا بوجود مخزون حقيقي من الوطنية داخل أرضنا أهم بكثير من أي مخزون حتى لو كان النفط وإيراداته التي لم تنجح في منع تداعيات ظروف "المسرحين من عملهم"، ونجح هذا المخزون الوطني الذي يحمله أولئك الذين قادوا إدارة هذه الأزمة والتخفيف من آثارها الكارثية عبر شبكات التواصل الاجتماعية التي أشبعت ذمًا وتحذيرًا في مجتمعنا ولكنّها كانت هي الفضاء الذي انطلق منه هؤلاء الجنود الوطنيين في تخفيف آثار هذه الأزمة المحزنة حيث وجد هؤلاء المسرحون أنفسهم والديون من خلفهم والسجن من أمامهم؛ ولا راتب يمكن أن يتعلقوا به عله ينجيهم من هذا المصير الذي واجهوه فجأة بدون مقدمات وبدون حماية من أحد، فكانوا محاصرين هم وعوائلهم في دائرة تحيط بها النار من كل اتجاه، فمن عساه يستطيع أن يرمي بنفسه لكي يحررهم من هذا الحصار، لم يجدوا أحدا إلا جنودا بدون إشارات ورتب ليقوموا بذلك،  فقاموا بمد حبال النجاة لهم، وهو موقف لا نجد بالفعل الكلمات التي يمكن أن تصفه؛ هو فعل بطولي، وإنساني، ووطني، وخيري، وفعل يستحق كل التقدير والإشادة. وأكدوا أنّ المواطنة لا تحتاج إلى كلمات كبيرة، ولا إلى مسيرات جرارة، ولا إلى قصائد شعر، إنما تحتاج في بعض الأحيان إلى ريال تضعه مع الآخرين لكي تنقذ رب أسرة وزوجته من السجن لكي يعودوا إلى أطفالهم قبل أن يجن الليل، ويشعروهم بالاطمئنان.

إنّ الحملات التي قادها بعض المغردين من خلال حساباتهم على منصة "تويتر"، من أجل التخفيف من الظروف الصعبة التي واجهها بعض المسرحين من العمل خلال العام الماضي، هي حملة بعثت ذلك المخزون الوطني لمعالجة ظروف هؤلاء الذين تحالفت عليهم ثلاثية التسريح والدين والسجن، وهذه الحملة حفزت الكثير من الجنود المجهولين الذين عملوا على المشاركة الفعّالة في معالجة إشكالية وطنية تفاقمت ولم تجد أي حل لها إلا إنقاذ هؤلاء المسرحين من المصير الأسوأ وهو السجن؛ وأكدوا بذلك أنّ المواطنة في هذا البلد حيّة تظهر أروع ما فيها خلال الأزمات، حينها يتبارى المواطنون بمختلف أطيافهم على التنافس لإظهار أفضل ما فيهم، لذا ستظل هذه الجهود التي لا تزال بذل في هذه القضية مثالا ناصعا يبعث الأمل بداخلنا على قوة المجتمع في تعاضده وتآزره، وفي قوة الفعل مقابل الشعار حينما يتعلق الأمر بالأفعال الوطنية، وهذا درس لابد أن يتعلم منه المجتمع وهو أنه حين يتحدد ويفكر في بعضه البعض يصبح كالبنيان المرصوص يشد بعض بعضا.

والمعالجة الشعبية لإشكالية المسرحين عن عمل لا تغني عن الاهتمام الرسمي؛ فواجب الحكومة دائما بث الطمأنينة الاقتصادية في الأحوال العادية فما بالكم حين تكون أصلا هذه الطمأنينة قد تمت زعزعتها؛ ولكن هذه المعالجة الشعبية تؤكد على ثلاث نقاط مهمة هي؛ أولها: أهمية بعث الخير الموجود داخل المجتمع وتوظيفه بطريقة فاعلة في القضايا الوطنية؛ وثانيا: ضرورة مراجعة آلية التعامل مع العمل الخيري والتبرعات الدورية وقيادتها إلى تشكيل صندوق مجتمعي خيري تصب فيه جميع هذه التبرعات التي تقوم بها مختلف الفرق التطوعية والخيرية في مختلف أرجاء عمان، وإدارة موارده المالية بطريقة استثمارية شأنه شأن بقية الصناديق الأخرى التي تأخذ مواردها من جهات أخرى.

إنّ مثل هذا التحول ضروري لزيادة القدرة على مواجهة مثل هذه الظروف مستقبلا، والتدخل بشكل سريع، وثالثا، مصلحة الحكومة في تسهيل حركة المجتمع المدني وتشكله وعمله من خلال مراجعة تشريعاته، فوجود جمعيات فاعلة يكون لها القوة اللوجستية والمالية سيعين الحكومة على مواجهة كثير من القضايا التي ستكون على غرار هذه القضية، فحين يطلب من المجتمع تحمل معالجات قضايا لابد من تمكينه وتقويته وإتاحة فرص العمل بحرية له.