الحادي عشر من ديسمبر فرحة وطن

 

جمال الكندي

توجد في تاريخ الدول علامات فارقة وأحداث غيَّرت من مسارها التاريخي ونقلتها من ضفة إلى ضفةٍ أخرى، وسلطنة عُمان من الدول التي لها تاريخها الكبير الحافل بمحطات سياسية وعسكرية مثلت لها علامات فارقة ومُنعطفات مُهمة في تاريخها، فهي تحمل في جعبتها التاريخية أياماً ذات أبعاد سياسية وعسكرية كونت من خلالها تاريخ عُمان الحديث مثل 23 يوليو يوم تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم، وهو يوم النهضة المباركة، والثامن عشر من نوفمبر وهو العيد الوطني المجيد.

هناك يوم آخر من أيام عُمان الماجدة هو الحادي عشر من ديسمبرالمجيد، يوم القوات المسلحة في سلطنة عُمان، ففي هذا اليوم توحدت عمان تحت راية واحدة شعارها الوطن لحمةً مترابطة متماسكةً من شمالها إلى جنوبها تحمل فكراً واحدا مستظلة بقيادة واحدة هي قيادة المقام السامي القائد الأعلى للقوات المسلحة.

الحادي عشر من ديسمبر عام 1975م، ربما يمر كغيره من الأيام خاصةً عند فئة الشباب الذين لم يُعايشوا تلك الفترة العصيبة من التاريخ العُماني ولا يعلمون سبب اختيار هذا اليوم بالذات ليكون يوماً للقوات المسلحة، ويكمن ذلك في عدم رغبة السلطنة في إبراز حيثيات ومعطيات تلك الفترة التاريخية من عمر الوطن فترة الحرب في الجنوب العماني؛ من أجل المحافظة على السلم الأهلي، وعدم نبش الماضي وطي هذه الصفحة التي أزهقت فيها أرواح العمانيين من الجانبين، وهذا دليل على سياسة عُمان الحكيمة المستمدة من فكر جلالة السلطان التصالحي، وما نراه اليوم من حمل سلطنة عُمان قيادة دفة إصلاح ذات البين بين دول الخليج العربي، وما تفعله من أجل إنهاء حرب اليمن يثبت أن سياسة عمان الخارجية هي سياسة البناء لا التخريب وهي كذلك في الداخل.

 سأتحدث هنا عن حكمة قائد استلم دفة قيادة عُمان في عام 1970م وهي في تخلف تنموي وحرب داخلية بدأت في عام 1964م، هذه الحرب استغل من أطلق شرارتها الوضع الاقتصادي المتردي لعُمان في تلك الحقبة، والصراع التاريخي القائم في العالم آنذاك بين الرأسمالية والاشتراكية، فتبنى أصحابها الفكر الماركسي في التوصيف السياسي والاقتصادي لبناء الدولة -كما كانت تقول- والسير بالمجتمع نحو الحرية والتنمية، فأرادت نشر هذه المبادئ في جنوب عُمان حتى شماله، ولكن القاعدة التي كانت تنطلق منها لا تناسب المجتمع العماني ذا الثقافة الإسلامية العربية الأصيلة.

هنا كان لابد من وجود شخصية لها مؤهلات عسكرية وثقافية تنقل عمان من الحرب إلى السلم، ثم إلى التنمية الشاملة، فكانت شخصية السلطان قابوس هي البارز لما تحمله من فكر إصلاحي وتنموي استطاعت بكل جدارةً أن تعبر بعُمان من أتون المعارك في الجنوب، إلى السلم الأهلي.

كان شعار جلالة السلطان حينما اعتلى سدة الحكم بناء عُمان ودعوة من حمل السلاح إلى المشاركة في التنمية، وفتح القنوات الحوارية للوصول إلى سبب التمرد ومعالجته، وهذا الذي حصل بالفعل فكان نداء السلطان لشعبه من أراد منهم بناء عُمان فليحمل معول البناء ومن أراد الهدم فشعارنا يد تبني ويد تحارب.

هذه السياسة الجديدة أبهجت العمانيين ودخل الكثير منهم في جبهة البناء فكانت من أهم أسباب إنهاء الحالة في الجنوب، وبدأت الحكومة العمل على جبهتين: الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية، ففي الداخل كان التحاور مع قادة جبهة ظفار للرجوع إلى حضن الوطن، والمشاركة في التعمير والبناء والوقوف على أسباب مشكلة الجنوب ومُعالجتها، فرجعت أفواج منهم إلى جبهة الوطن وساهمت في إنهاء الحرب.

في المُقابل كان العمل على الجبهة الخارجية مهماً جداً في إبراز وجهة نظر سلطنة عُمان فيما يجري بالجنوب، وأن مرحلة ما بعد تولي جلالة السلطان تختلف عن ما قبلها في التعاطي مع ما يحدث هناك، خاصة وأن بعض الدول العربية وقفت ضد الحكومة العمانية ولم يتغير موقفها إلا بعد أن شرحت الحكومة العمانية وجهة نظرها الجديدة بقيادة جلالة السلطان وأنها تحاول بكل الطرق السلمية وقف هذه الحرب ولكن الذي أطال أمدها بعد تولي جلالته- أبقاه الله- الحكم، هو مساعدة اليمن الجنوبي القريب جغرافياً من الجنوب العماني وصاحب الفكر الماركسي نفسه الذي تتبناه حركة الجنوب.

 لذلك كان لابد من عقد تحالفات عربية وإقليمية وعالمية لإنهاء الحرب فكانت الأردن من أوائل الدول العربية التي ساعدت سلطنة عمان في حربها في الجنوب بتزويد الجيش العماني بالخبرات التي يحتاجها والطائرات المناسبة لجغرافية المنطقة.

تحالفت سلطنة عُمان مع دولة إقليمية مهمة كذلك في ذلك الوقت هي إيران وسبب هذا التحالف غضب بعض الدول العربية ولكن كانت رؤية السلطان قابوس أنَّ إنهاء هذه الحرب يتطلب عقد التحالفات التي تُساعد الجيش العماني في تحقيق النصر الذي من خلاله سوف يتفرغ السلطان لبناء الوطن، وقد كان هذا هم السلطان الأول، فظهرت التحالفات ذات البعد العربي بوجود الأردن والإقليمي بوجود إيران والدولي بوجود بريطانيا الحليف التقليدي والتاريخي لعُمان، وكان مهماً لإبراز وجهة نظر الحكومة العمانية في المحافل الدولية بمساعدة بريطانيا، وبسبب التباين الفكري والتاريخي مع المنظومة الاشتراكية كانت بريطانيا داعماً دوليا قوياً لعُمان سياسياً وعسكرياً وإعلامياً،وهذه التحالفات سرعت من النصر، ولا ننسى أنَّ العمل في الجبهة الداخلية كان له الأثر الكبير جداً قبل الجبهة الخارجية.

الحادي عشر من ديسمبر 1975م هو فرحة وطن وتاريخ جديد يكتب لعمان بدون صراعات عسكرية، هذا التاريخ قد يكون مجهولاً عند جيل الشباب العماني الحالي بسبب عدم رغبة الحكومة في تسليط الضوء على تلك الفترة؛ لأن من سقط فيها عمانيون من الجانبين، ولا ترغب القيادة الحكيمة في تذكير الناشئة بتلك الحقبة من أجل المحافظة على السلم الأهلي وعدم إثارة النعرات المناطقية والفكرية، وهذه هي السياسة الحكيمة لسلطان عمان الفذ التي بها أسرى القلوب والعقول، ونحن نكتب لنذكر- لا لنفتح الجروح- كيف استطاع جلالة السلطان المعظم أن يوقف هذه الحرب ويساوي بين العمانيين في التنمية والحقوق والعيش الكريم، وقبل كل ذلك في تحقيق الأمن الذي له الأولوية القصوى، وإن صورة الوضع في سوريا واليمن والعراق كافية لمن يريد أن يقارن!!