قيمنا الوطنية والثقافية في خطر

حمد بن سالم العلوي

لعلَّني لا أبالغ إن أبديت تخوُّفي من بعض الظواهر التي أخذت التسلُّل إلى المجتمع العُماني مؤخراً، فلديَّ بعض النماذج على هذا التخوف، ألا وهو الغزو التغريبي إذا جاز هذا الاصطلاح أن يطلق عليه، والذي أصبح يستهدفنا ونحن نفتح له الأبواب بعلم منا وقبول ورضا، وبتواضعنا المعتاد الذي قد بلغ مرتبة السذاجة في الكثير من المواقف؛ فمن هذه النماذج المُخفية أن تدخل مؤسسة رسمية فتجلس تنتظر دورك، فيبدأ بالنداء عليك باللغة الإنجليزية ثم تتلوها الترجمة إلى العربية، وبعض الأحيان لا تكون هناك ضرورة أصلاً حتى يُؤتى بالترجمة؛ لأن الموضوع محصور بالعُمانيين وهم عرب على حد علمي؛ فعلى سبيل المثال: قاعة "رواد الأعمال"، وهي خاصة بالعُمانيين، فما الداعي أن يُنادَى على المراجعين باللغة الإنجليزية أولاً ثم يترجم النداء إلى اللغة العربية؟!

والنموذج الثاني، يكمُن في مسميات المحلات التجارية، والشركات التي يُقال عنها إنها تسجَّل بأسماء عربية، وتُترجم إلى اللغة الإنجليزية، ولكن الذي أصبح معمولا به غير ذلك، فإن الأسماء أصبحت تكتب باللغة الإنجليزية وحدها، وأصبح يتوجَّب على أمثالي أن نظل نتهجَّأ الاسم فترة من الزمن حتى نعرف المكان المستهدف؛ فذات مرة سألت شخصًا كان يُقيم في فندق من فنادق أحياء مسقط، فأردت أن أعرف اسم الفندق، فتعذر عليَّ وأنا داخل عُمان، وليس في بلد أجنبي، فسألت: لماذا اسم الفندق غير مُترجم؟ فقيل لي هذا للواجهة، والحقيقة ليست كذلك، وإنما سُحبنا للتغريب رويداً رويداً حتى يُنسونا لغتنا العربية، ونحن إذا ذهبنا إلى بلدانهم لا نجد كلمة واحدة بلغتنا العربية، وإذا لم نكن نعرف لغتهم، فإن ليس هناك من أحد سيشفق علينا، وذلك بالنظر لاعتزازهم بلغتهم وقوميتهم، أما العربي فيُمنع من أن ينتخي بعروبته وقوميته داخل وطنه، حتى صار بعض مثقفينا يسمون القومية العربية بـ"القومجية" على وزن "الهمجية " كنوع من التنفير الممنهج.

أما النموذج الثالث والأخير، فشأنه شأن خطير يقوده أحد البنوك الوطنية، ويعرِّف نفسه بـ"البنك الرائد" في السلطنة، وكيف لا، وأنت تجدُه أمامك بين كل سكة وسكة، إما من خلال مبنى فرع، أو جهاز صرف آلي؛ لذلك فلا عجب أن يكون رائداً بانتشاره الكبير، ولكن الشيء غير الرائد، أن تجده يقود المجتمع العُماني إلى رذيلة في السلوك السلبي، فهو يتبنى نشر الطبقية في المجتمع العُماني من خلال تسويقه لنظام الطبقية اللعينة، ورذيلة الرأسمالية البغيضة، فقد كنت أسمع عن سلوكه البغيض هذا، وظننت أن في الأمر مبالغة، وذلك لما قيل لي عنه إنه ينظر للإنسان على أنه مجرد رزمة من النقود، فإن قَلَّتْ تقلُّ قيمته أمامهم، وإن زاد عدد الأنواط النقدية حتى ولو كان صاحبها من وزن الريشة، فإن دخوله البنك يهز الأرض هزًّا، وكأن بلدوزراً كبيرَ الحجم غشَّى المكان، إذن أنت تصبح بقدر ما تملك من مال تكون قيمتك.

إذن هذا "البنك الموصوف بالرائد" قد ألغى إنسانية الإنسان؛ فأخذ ينظر للإنسان ليس بقدر إنسانيته وخلقه وأدبه ودينه وتواضعه، وما يقدمه من خير للناس والإنسانية والوطن، وإنما بما يرفد به خزائن البنك من كنوز المال، فمثلي ممن يملك حساباً هزيلاً قد فرضته عليه طبيعة التعامل مع المؤسسات الحكومية للتعامل معها في دفع الضرائب والرسوم، فوجد أنَّ بطاقة هذا البنك هي الأمضى عن غيرها في العطاء بسخاء، وليس الأخذ من غير وجه حق، فلم أعلم أن الستر مهتوك لدى هذا البنك لأمثالي، ممن دخلهم لا يحسب بالآلاف من الريالات والأنواط الملونة.

فما كنت سأحتاج الدخول إلى هذا البنك، لو أنه لم يُنبِّهني برسالة عبر الهاتف أنَّ بطاقتي الشخصية ستنتهي قريباً، فقد دأب هذا البنك وغيره من البنوك على إرسال رسائل التذكير لمن ستنتهي بطاقته الشخصية قريباً، فجددت البطاقة الشخصية وذهبت لأعطيهم نسخة منها، لأن التنبيه كان يرافقه تحذير بالتوقف عن تقديم الخدمات المعتادة، وإن بطاقة البنك ستعطل تلقائيًّا دون تجديد البطاقة الشخصية. فأخذت صورة ملونة عن البطاقة الجديدة، وذلك حتى أُطيِّب خاطرهم في هذا البنك، فارتديت ملابس العيد الماضي وهي لا تزال تحتفظ بجمالها واعتمرت عمامة الترمة، واكتفيت بهذا القدر من جمال الملبس والهندام، وذهبت باتجاه فرع البنك الأقرب لبيتنا، ولكن اكتشفت أنَّ هذه الشياكة والاهتمام بالمظهر الخارجي ليس له قيمة، فقد هتك الستر شكل البطاقة التي أمتلكها من البنك؛ فبدأ التعنيف من عند موظف الاستقبال بعدما طلب مني إبراز بطاقة البنك، فعلى ما يبدو من شكلها يتم التعرف على شخصيتك وحجمها، فاستفزني أسلوبه الخشن، فهممت بالرد عليه، ولكن قلت في نفسي هي ورقة أسلمها وأخرج، والصبر مطلوب.

ولأنَّني غريب في هذا البنك، فعليَّ أن ألزم أقصى لُزوم الأدب، فأعطاني ورقة تحفظ لي الدور في الخدمة كما ظننت أنا على الأقل، فظللت أسيخ السمع للنداء الذي سيكون مترجماً بالطبع إلى العربية، ولكن الأرقام أخذت تتراقص بين ما هو أقل وما هو أكبر، وأنا غير مدرك للعبة، وانقضى من الزمن ما يتجاوز 45 دقيقة، وكان أمامي شخصان فقط حسب التسلسل، و"أخذ الفأر يلعب في عبِّي" كما يقول مثل عند بعض الأخوة العرب، فحاولتُ استفسر من الموظفة المسؤولة عن السبب، ولكنها -وهي العارفة بالسر- تبتسمُ، ولم ترد إلا بطلبها مني الانتظار، فرآني أحد الوافدين العرب، وقد فقدت الصبر الذي عزمت على أن ألتزمه، ولكن هذا الصبر ملَّ من صبري، فتنازل لي عن دوره احتراماً لشيبتي كما يقولون هم ذلك في تعبيرهم عن الإنسان كبير السن.. فأقول: "يا ترى إلى متى ستصمد قيمنا الأصيلة أمام هذه الهجمة الشرسة الممنهجة؟!!" لذلك أكرِّر طلبي للحكومة بأن تُنشئ مراكز إستراتيجية لدراسة ومراقبة التغيرات التي تطرأ على القيم الاجتماعية العُمانية، وضبطها وحفظها من الزوال قبل فوات الأوان.