قصة قصيرة

من ثقب العالم

وفاء الشوفي | سوريا

 

في صيفٍ لاهب.. مكتظٍ بالغضب ولأحلام.. و حيثُ الحصاد لا الزراعة مزاج العامة.

من شرفةٍ عالية مطلة على تلك الساحة الليلية تشهد بصمت ليلاً لم يحدث منذ أكثرَ من نصف قرن.. هناك حيث احتشدت الجموع لتغيرَ وجه الأرض.. لكن جاء الصباح حثيثاً و عادياً ككل يوم.. كأن شيئاً لم يكن!

من ثقب بابٍ ينظر الجسدُ الصغير ويرقب بخوفٍ تلك المسرحية الغريبة والنادرة في مثل هذه البلاد الصامتة.

 لكنّ المشهد أوسعَ من ذاكرةٍ الأبواب، منفلتاً من عقال الخوف، يردّدُ ما يظنّهُ حقيقة!

من يُنبت للحلمِ أنيابًا، فلا تدوسهُ حوافر الواقع!؟

لم تولد الثورات لتلخّص ما نريد.. بل تولد لتسكُب ما يفيضُ من كأس الصبر لا يعرف الطفل أن يقول هذا.. لكنه فقط يقف في العتمة ويراقب.

آلاف البشر يصرخون ويضربون كعوب الطناجر مطالبين بحقوقهم المنهوبة. ينادون مستقبلهم رافعين أعلامهم كعصا موسى.. فهل يسمع

تلك الساحة لأكبر مدينةٍ في العاصمة بشوارعها العريضة تصبح ولأول مرةٍ جوقةً كبيرة وبصوتٍ واحد تمزّق صمتَ الليل.

هذا الليل الطويل الأرِق.. الذي يدفن الأحلام و يزرعها، فلا تتطابق المواقيت عند البشر!

أحدهم: ينسلّ بينَ الحشود، يضع في جيبه معادلةً صعبة،  لم يجد سوى درباً واحداً لحلّها: أن يهرب نحو حلمه قتيلاً..

أحدهم: يذهب للحرب معتنقاً سلاحه، يجرفه نهر الواجب ليسقط أخيراً في دمِ الذنب.

 الحلمُ والذنبُ: توأمانِ يهبطان درج الانتقام.

إحداهنَ: ستفقد الاثنين معاً وتغرق في النحيب.

ولن يبقى على الشرفةِ سوى الطفل الذي راقبَ وشاهد كلَّ شيء والطفلة النائمة رغم صخب تلك الليلة.

كأنَّ المشهد أسطورياً في مدنٍ لم تعرف سوى المسيرات.. في مدنٍ تصنعُ الحشودَ كما تصنعُ الدمى و المقامات.

الوقتُ.. الثانية بعد منتصف الصرخة التي كُمّمَت. جاء العسكر للتهدئة.. و لم تخرس الأفواه..

الوقتُ.. الأشد حلكةً قبيل طلوع الضوء.. الصرخة تحولت لعواء وانفجارات.. تسعة عشرَ قتلوا بالرصاص الحي.. جاء الموت.

وخارجَ الوقت الرسميّ.. دُفنوا.

أجبروهم على دفن قتلاهم في وقت الحلكة وقبيلَ طلوع الضوء.. تفرقت الحشود.. و دونَ وداع ذهبَ الثائرونَ إلى نومهم الأخير.

الوقتُ.. تمامُ الصبحِ، والساحة نفَضت عن كتفيها هذا الكابوسَ وغسلت يديها من الدماء.. المدينة نظيفةٌ تماماً ككل المدن المتحضرة.. نزعت أقدامها من التراب الرطب، خافيةً كلَّ الجثث والذكريات، ركبت موكبها ودخلت في دورة اقتصادها من جديد.

الوقتُ.. شمسُ الصباحِ التي تسيرُ إلى دوامها.. الساطعةُ على الإسفلتِ المغسولِ واللامع ..

الوقت.. طفلٌ نامَ على بول خوفه في العاصفة.

الوقت.. طفلةُ الفقد، و أمٌّ لا تنام.

الوقت لا شيء.

تعليق عبر الفيس بوك