القتل السيكولوجي أشد وطأة من الوفاة

د. عبدالله باحجاج

أحياناً ترتكب جرائم دون أن يُدرك أصحابها أنها جرائم، وتلحق الأذى الدائم بالمتضررين منها طوال حياتهم، وهي جرائم من منظور كل الاعتبارات، الدينية والإنسانية والقانونية، الوطنية والعالمية، هل وراءها الجهل بها؟ مؤكد ذلك، إذن، كيف نحرره من الذهنيات ما دامت تداعيات هذه الجرائم لن تنتهي بموت ضحاياها، وإنما تستمر مع الأحياء طوال حياتهم بصواعق سيكولوجية "نفسية" دائمة؟

وقفنا مؤخرًا على إحداها، واقتربنا كثيرا من حجم آلامها ومعاناتها على أسرة، وتحديدا الأم، فكلما حاولت أن تنسى – أي الأم - هيهات لها ذلك، بل تزداد مُعاناتها، فالصور تذكرها بمأساتها "يقظة ومناماً" والسبب تصرف أرعن قام صاحبه بتصوير من هاتفه الذكي حادث ابنها، ونشره كمقطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر فيه هذا الشاب – عليه رحمة الله ورضوانه - وهو يحترق داخل سيارته، ولنا تصور حجم المُعاناة النفسية الدائمة لهذه الأسرة، وبالذات الأم – الله يصبرها ويكون في عونها-.

وهذا ما يدفع بنا إلى تناول هذه القضية من منظور هذه الحالة لدواعي نشر التوعية لتفادي تصوير الحوادث، ورغم السماح لنا بذكر الاسم كاملاً، إلا أننا نكتفي بالواقعة فقط، وهي معروفة، وقد وقعت مؤخرًا، ووراءها قصة درامية "حزينة جدا" ومجموعة نتائج وتداعيات ستساعدنا في توظيفها لفهم حجم معاناة هذه الأسرة من جهة ولتوصيل رسالة التوعية لقاعدة كبيرة وعريضة من الناس من جهة ثانية، ومن أبرزها "أنه من لم يمت بالمرض مات بغيره" وهذه سنجدها بصورة لافتة في هذه الواقعة، وكذلك "أن تصوير الحوادث المرورية يصنع معاناة إنسانية دائمة" وأيضا "سجن مشدد أم غرامات متدرجة أو هما معا، لمن يصور حادثا مروريا وينشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي". وقصة هذا الشاب واسمه "بريك" مع الحياة، وقصته مع الموت، تستوقفان أصحاب العقول التي لم تحسم أمرها في هذا الوجود، فتذبذبها مع المبادئ، ومرونتها في الالتزام، مسألتان خطيرتان لمآلات الوجود، من هنا نقدم القصة من هذا الاستهداف كذلك، فمن أين تكون البداية، ربما من نهاية الحكاية.

والنهاية تحدثنا، أنه لم تدم فرحة بريك بنجاح علاجه الطويل من مرض الفشل الكلوي سوى شهور قليلة حتى فارق الحياة عندما أصاب عطب "بنشر" إطار سيارته في الطريق المؤدي إلى مرباط، نتج عنه فاجعة مرورية، وذلك عندما اصطدمت سيارته بعمود إناره، اشتعلت سيارته وهو فيها بصحبة أصدقائه، ما أدى إلى وفاته بينما أصيب الآخرون إصابات مختلفة.

مما دفع بالتصرف الأرعن إلى تصوير الحادث المؤلم، ونشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإلى الآن متداول "للأسف" فماذا نسمي هذا التصرف؟ إنِّه اعتداء صارخ على الخصوصية وانتهاك لمشاعر الآخرين، ويصنع حالة حزن دائمة وعميقة  لذوي المتوفى، ويعرض فاعل هذا التصرف للمساءلة القانونية، فهناك المادة "269" من قانون الجزاء العماني تجرم إهانة الكرامة، وتصوير ضحايا الحوادث المرورية وهم في حالة الاحتضار أو الموت أو هم ملقون على الأرض، واطلاع الناس عليها، إهانة للكرامة.

ويجرمها كذلك قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ففي المادة "16" منه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تقل عن ألف ريال ولا تزيد على خمسة آلاف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من استخدم الشبكة المعلوماتية أو وسائل تقنية المعلومات كالهواتف النقالة... في الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة أو العائلية للأفراد، وذلك بالتقاط صور أو نشر أخبار أو تسجيلات صوتية أو مرئية تتصل بها ولو كانت صحيحة أو في التعدي على الغير بالسب أو القذف.

مادة صريحة وواضحة ومُغلظة، تعتبر تصوير الحوادث المرورية "صورة وصوتا" اعتداءً يؤدي إلى السجن لمدة قد تصل لثلاث سنوات، وحتى لو كانت سنة بصرف النظر عن الغرامات المالية، فإن تلك العقوبة ينبغي أن تشكل رادعا قويا، لكنه لم يحدث ذلك، لماذا؟ ربما رسالة الردع لم تصل إلى الشرائح الاجتماعية، وخاصة فئة الشباب.

ويمكن الاستدلال كذلك، بالكثير من الحوادث غير حادثة بريك، لإثبات عدم وصول الرسالة الردعية القوية والتوعية للمستهدفين، ونقدم هنا كذلك، حادثة بركاء، حيث ظهرت منها صور تؤلم الإنسان وتخدش الحياء لكل الأسر، لو وصلت الرسالة، فلن يكون لدى أي مواطن أو مقيم الاستعداد لقضاء ثلاث سنوات أو حتى سنة في السجن بسبب تصوير حادث مروري، كذلك لو علم بحجم الآلام النفسية الدائمة التي يخلفها تصوير ونشر الحوادث المرورية في نفسيات أقارب ضحاياها "كأم بريك" مثلا.

وكان بريك قد أُصيب بمرض الفشل الكلوي– رحمه الله - بعد شهرين من ولادته في 31/ 8/ 1999، ومن هذا التاريخ، وحتى عام 2019، تنتقل بين عدة مستشفيات داخل البلاد وخارجها بما فيها ألمانيا، حتى استقر به الحال في الهند، ومنها نجحت عملية زرع كلية له من أحد أشقائه، وبعيد السماح له بممارسة حياته الاعتيادية، كان جل هاجسه اكتشاف مسقط رأسه والتجوال في مختلف ولايات محافظته التي لم يراها أبدًا، ولم يعلم أنَّ هذا الشغف سيكون سبباً لخاتمة حياته في الوقت الذي بدأ يمارس حريته في التنقل بعدما فقدها سريعاً بعد ولادته بسبب المرض، وتعددت الأسباب والموت واحد.

ويضعنا هذا المفصل الهام من القصة، أمام حجم الآلام النفسية المترتبة على أسرة هذا الشاب من جراء تصوير ونشر مقطع الفيديو، ومن ثمَّ تضعنا أمام المشهد العام لكل الحوادث المرورية وصدماتها النفسية، الآنية والدائمة، وتُؤكد الدراسات والبحوث أنَّ مثل هذه الصدمات قد تُسبب ضغوطاً حادة ينجم عنها حدوث خلل في التركيب الكيماوي لمخ الإنسان، مما يُؤدي إلى أعراض فسيولوجية جسيمة تُعرف بالضغوط الصدمية، وهي لا تقتصر على مرتكبي الحادث فقط، بل قد تمتد إلى مرافقيه وأسرهم جميعاً.

وبصرف النظر عن التلويح بالعقوبات سالفة الذكر والتي قد يفلت منها بعض مرتكبي مثل هذه الجرائم بسبب صعوبة كشفهم في الفضاءات الإلكترونية في حالات معينة، نراهن هنا على الوعي الذاتي والجمعي من منظور الآلام النفسية العميقة والدائمة وانعكاساتها الاجتماعية الأخرى.. فرفقاً بضحايا الحوادث وذويهم، واخشوا من إدانة أفعالكم "فمثل ما تدين تُدان" فهل وصلت رسالتنا التوعية والردعية من خلال هذه القصة؟

 نتمنى أن نكون قد وفقنا في إيصالها على نطاق واسع، ونتمنى ممن يقرأ هذا المقال أن يساهم في نشره، ولكم الأجر، ونسأل الله عزّ وجلّ لهذا الشاب المغفرة والرحمة وأن يرفع درجته في الجنة، ويلهم أسرته الصبر والسلوان، ونقدم لأسرته الكريمة الشكر الجزيل والتقدير الرفيع على السماح لنا بالتعاطي معها صحفياً لرفع الوعي وصناعة الردع، والله يجعلها في ميزان حسنات هذا الشاب إن شاء الله.