د. عبدالله باحجاج
تحتفلُ بلادُنا اليوم بعيدها الوطني الـ49 المجيد، في وقت يحتفلُ فيه المجتمع الدولي بيوم التسامح العالمي، الذي يُصادف 16 نوفمبر من كل عام، ويستمرُّ عدة أيام، ويُشكل هذا التلاقي في شهر نوفمبر كبرى الدلالات وأعظمها، ويحتِّم علينا استنطاقها، لمكانة التسامح ومنزلته في تأسيس الدولة العمانية المعاصرة القائمة الآن على الأمن والاستقرار والسلام والعيش المشترك بين كلِّ مُكونات المجتمع العُماني؛ في إطار تعايشه الداخلي والخارجي مع شعوب وأمم تختلف معها في الدين والأيديولوجيات والثقافات.
وتلكم ليست مُبالغة نُجامل بها أنفسنا في يومنا الوطني، بل هو توصيف حقيقي لمسار تاريخي انطلق في التاسع من أغسطس عام 1970 من داخلنا أولا، ومن ثم شمل علاقات بلادنا الإقليمية والدولية، وأصبح -أي التسامح- له معنيان؛ الأول أنه صفة عمانية نجدها مُتأصِّلة الآن في الدولة والمجتمع، والثاني: أنه منهج عُماني لتحقيق السلم الأهلي الداخلي والسلام الإقليمي والدولي؛ لذلك لن نستغرب من قيادة البلاد دول العالم في الاحتفاء بمبدأ التسامح في العاصمة الإندونيسية.
وما إطلاق السلطنة مبادرة "المؤتلف الإنساني" والتي تحمل اسم عاهل البلاد -حفظه الله- سوى دلالة قطعية متجددة على الرهانات السياسية العمانية للتسامح في تقريب وجمع الشعوب والأمم بكل ثقافاتهم ومعتقداتهم، تحت مظلة العيش الإنساني المشترك. ومن هنا، تحمل المبادرة اسمها "المؤتلف" أي ما توافقت واجمعت عليه الشعوب والأمم، ولو بحثنا في المؤتلفات بين الأمم والشعوب، لوجدنا أكثر ما يقرب بعضها البعض، والقلة ما يفرقها. ومن هنا، تأتي أهمية مبادرة المؤتلف الإنساني، وهو مُسمَّى بليغ ودقيق، وقد أحسنت السلطنة في اختياره وفي توقيت إطلاقه الذي يأتي مواكبة مع احتفالات البلاد بعيدها الوطني.
وانطلاقة السلطنة العالمية، تأتي بعد أن رسَّخت التسامح داخل ترابها الوطني وبين كل مكوناتها الاجتماعية وتنوع أفكارها؛ وذلك عندما تعامل عاهل البلاد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله- مع من كَانوا يحملون السلاح لإسقاط نظام حكم والده، بالتسامح أي العفو، وهذا معنى من أهم معاني التسامح، فقد كان في موقف القوة، يجعله يستخدم العنف والعقاب، غير أن فكر جلالته الثاقب، ورؤيته بعيدة المدى، واستشرافه لمستقبل الدولة في ظل الثقل الديموغرافي العماني، وتنوع مكوناته الفكرية والاجتماعية والبشرية، قاده لأن يبدأ بإقامة الدولة العمانية الحديثة من بوابة التسامح.
وهذا ما نجده في فقرة مُكرَّرة مرتين في ذلك الخطاب التاريخي الذي انطلقتْ منه النهضة العمانية في بناء الدولة والمجتمع، وهى: "عفا الله عما سلف، عفا الله عما سلف"، والنتيجة: ديمومة الأمن والاستقرار الذي تنعم به بلادنا ولله الحمد والشكر، وحالة العيش المشترك الداخلية بين الساكنة الاجتماعية رغم التعدد والتنوع الشامل، وقد شمل هذا النهج كل ما يظهر فوق السطح من حالات واحتقانات؛ ولم تترك النهضة العُمانية وراءها ماضي تخشى من استدعائه في أية لحظة.
وقد كان لهذا النهج انعكاساته على صعيد علاقات البلاد الدولية، فمنه -أي التسامح- صاغتْ منه بلادنا منهجها في تحقيق السلام الخارجي بعدما ثبت لها نجاعته في تحقيق السلم الداخلي؛ مما أصبح موسوما بنهج التسامح مع الآخر؛ لذلك تدعو بلادنا في إطار علاقاتها الإقليمية والدولية، كلَّ قادر على التسامح أن يبادر إليه تلقائيا لكسب الآخر، وحل الخلافات والنزاعات والتوترات.. فهِمَهَا من فَهِم، ومن ثمَّ نجح معها في تحويل التوتر والنزاع إلى سلام، وجَهِلَها من جهل تعاليًا على الاعتراف لها بهذا الدور، خاصة من يستقوي بقوتها الخشنة والأجانب، ويرى أنَّ بإمكانه من خلالها -أي القوة- تحقيق مصالحه وأطماعه على حساب الآخرين.
وخيار القوة يُمكن الاستدلال به في مؤشر تصعيد القوة الإقليمية، واقترابها من حالة الانفجار بعد أن اختبرت في تجارب حرب الناقلات النفطية وضرب إحدى مصافي النفط.. وبعد أن اختبرت سلاح المقاطعة والعقوبات، مما بدأ المشهد الآن يُبرهن على صحة مسار السلطنة ونهجها السياسي؛ بحيث أصبحت بلادنا الآن تقود مساعي مباركة لإبطال مفاعل أزمات إقليمية وإقامة سلام إقليمي بعد أن كادت حرب رابعة تندلع في المنطقة.
بلادنا الآن -ولله الحمد والشكر- تقود الآن مسيرة صناعة التوازن الطبيعي للعلاقات الدولية، عبر مبادرتها سالفة الذكر، وهى تهدف لإعادة الاعتبار للمنظومة الأخلاقية والقيمية لهذه العلاقات، عبر نشر تعزيز القيم والأخلاق المشتركة بين الشعوب والأمم المختلفة، من أجل احترام الآخر، والتأخي معه، ونبذ كل مظاهر التعصب والكراهية والتمييز.
لذلك؛ تعدُّ بلادنا الدولة الأولى احتفاءً باليوم العالمي للتسامح، والأولى صدقية ومصداقية لتطبيقه داخليا وممارسته خارجيا، وهى كذلك الأولى عالميا؛ لأنه لن نجد دولة تصرف على السلام الإقليمي والدولي أكثر منها، ومبادرتها "المؤتلف الإنساني" تتوج جهودها العالمية، وتمنحها دور الريادة والزعامة العالمية في حمل المجتمع الدولي بدوله وشعوبه إلى التوافق والإجماع على المشتركات التي تجمع الكل على العيش بسلام وأمان في كوكبنا الأرضي.
لذلك؛ يحمل عيدنا الوطني الـ49 المجيد، أبعادًا ومسميات كثيرة؛ فهو فرحة وطن بيوم ميلاد قائده، وفرحة وطن بنهضته الشاملة، ويوم وطني يؤسِّس دَوْرًا جديدا للسلطنة ضمن أدوارها الإنسانية العالمية، دور إعادة الاعتبار للمنظومة الأخلاقية والقيمية للعلاقات الإنسانية العالمية عبر ترسيخ ثقافة احترام الاختلاف، وتعزيز التفاهم الأممي بقيم إنسانية مشتركة، وتغليب مسلمات التعيش المشترك بين الإنسانية رغم اختلافها المذهبي والديني والجغرافي.
اللهم إنا نسالك لعاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- الصحة والعافية والعمر المديد، ولبلادنا ديمومة أمنها واستقراراها، ولشعبها الازدهار والتقدم، وتحية إجلال وتقدير للمخلصين والأوفياء في هذا الوطن الغالي، وندعو الله جل في علاه، أن يوفق بلادنا في مساعيها لنشر القيم والأخلاق في العلاقات الإنسانية العالمية، وهذا يُحتِّم عليها في المقابل تحديث وتطوير بعض آلياتها الداخلية مواكبة لمسيرتها الإنسانية العابرة للحدود.. وسنتناوله في مقال مقبل.