لوم الآخر
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
كاتب قطري وعميد كلية الشريعة سابقاً
يقوم التعليم الديني على فكرة محورية، هي (لوم الآخر) وتحميله مسؤولية تردي أوضاعنا، تبريراً لعجزنا عن الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وإخفاقنا في النهوض والتقدم .
سبعة عقود، والتعليم الديني، وخطابه بألوانه المختلفة: السلفي والصحوي والجهادي والتقليدي، في شغل شاغل بلوم الآخر الحضاري (الغرب) الذي استعمرنا، وتآمر علينا، وأفسد ذات بيننا، ومنع تقاربنا .
نغمة المنظومة الدينية حول المؤامرات العالمية التي تحاك للإسلام والمسلمين عالية، بدءاً ببروتوكولات حكماء صهيون، وانتهاء بقوى الصليبية الحاقدة، فالغرب يخاف وحدتنا، ومسكون بالأحقاد الصليبية ضدنا، ومهما ادعوا احترامهم للإسلام، وتظاهروا بمساعدتهم لنا، إلا أنَّ نفوسهم مشحونة برواسب العداء منذ الحروب الصليبية .
يصور التعليم الديني (الغرب) بأنه شيطان متآمر، لا يأتي منه خير أبداً، يتربص بنا الدوائر، وعندما ألَّف د. زكي نجيب محمود (شروق من الغرب) عام 1951ردَّ عليه الشيخ الغزالي بـ (ظلام من الغرب) 1956.
الشيطان الغربي، يأتي في صورة (الغزو الثقافي) بهدف تدمير المجتمع الإسلامي، تارة، ويأتي في صورة (العولمة) الخبيثة، بهدف محو ثوابتنا والقضاء على مقوماتنا، تارة ثانية، ويأتي في صورة (التغريب) أو (الحداثة) بهدف إذابة هويتنا، وإشاعة الانحلال الأخلاقي، وإفساد المرأة العربية والمسلمة، بدفعها للتشبه بالمرأة الغربية، وترك دينها وبيتها، انسياقاً وراء مظاهر التقدم، وانخداعاً بشعارات المساواة وحقوق المرأة، وما تُعانيه مُجتمعاتنا من فساد إخلاقي، سببه الأفكار الوافدة من الغرب .
لا يكف التعليم الديني وخطابه الإعلامي، عن ترديد مقولة (أعداء الأمة الإسلامية) والدعاء عليهم ولعنهم، بهدف خلق حالة من الكراهية للغرب، فما إن يكتب نكرة، أو يتفوه حاقد على الإسلام سفهاً، عندهم، حتى تجد صداه السلبي مضخماً عندنا، يتصيده الدعاة لتأكيد عدائية الغرب، وهؤلاء الأعداء، صنوف شتى، بحسب رؤية الداعية أو المعلم، تتسع لتشمل الليبراليين والعلمانيين وكل من لا يتفق معهما.
الإعلام الديني، لا يعرف عن الغرب إلا سيئاته، وهو منشغل بحماسة مدهشة، في إبراز مادية الغرب وإباحيته وانحلاله وعدوانيته وصليبيته، طالع أي مجلة أو فضائية دينية، لا شيء غير الوجه القبيح للغرب .
وإذ يمجد التعليم الديني الذات، ويتغنى بحضارة الأسلاف والانتصارات، فإنه يحمل الآخر وزرالنكسات، فالفتنة الكبرى وراءها اليهودي (ابن سبأ) وحين تدهورت حضارتنا فذلك بفعل يهود الدونمة والغرب، وهزائمنا المنكرة بدءاً من 1948 هم وراءها، وهكذا دائماً فالآخر هو الجاني، ونحن الضحية .
أخيراً: ليس الهدف تبرئة الآخر، فهناك صراعات ومصالح متضاربة، لكن المهم (أولاً) الاعتراف بمسؤوليتنا، كما فعلت أمم عانت أوضاعاً استعمارية أسوأ بكثير منَّا، لكنها تحملت مسؤوليتها، وشخصت داءها، فتجاوزت وتقدمت : الصين، الهند، ماليزيا، كوريا، تايلند، فيتنام، البرازيل، اليابان، ألمانيا .
ومن المهم (ثانياً) ألا نبقى أسرى مقولات (الماضي الاستعماري) و (الغزو الفكري) و(التغريب) و(الأمة المستهدفة) و(التآمر العالمي) علينا التحرر من تلك العقد المرضية المعوقة، كما فعلت الشعوب الأخرى، هناك مساحات واسعة للاتفاق بيننا وبين الغرب، وهناك مصالح مشتركة أكثر بكثير، تجمعنا .
والمهم في كل مرحلة معرفة حجم المصالح المشتركة وإدارتها بما يعظمها ويهمش التناقضات، لاعلاقات صراع دائمة، ولا ملائكة وشياطين فيها، ولسنا بحاجة إلى اصطناع أعداء لتبرير إخفاقاتنا، علينا الاعتراف بواقعنا بحقائقه ونقائصه، دون مكابرة أو استعلاء، والاعتراف بأخطائنا التاريخية، في حق أنفسنا وحق الآخرين، والتخلص من الانتقائية التي تختار من التاريخ الإسلامي، لحظاته المضيئة، وتتجاهل ألف عام من ظواهر التسلط والاستبداد، علينا دراسة التاريخ بخيره وشره كما حدث، لا كما نهوى ونُريد .
وإذا كان للغرب سيئاته، فإنَّ له أيضاً، إيجابياته، فلولاه ما استطاع العالم الإسلامي، تحقيق أي إصلاح أو تقدم بدءا من منتصف القرن 19، وما نتمتع به من مظاهر التحديث، أساسها أفكار الغرب ونظمه وقيمه، والإنصاف يقتضي أن نتهم أنفسنا قبل اتهام الآخرين، وذلك هو البداية الصحيحة للتجاوز والنهوض .