علي بن مسعود المعشني
رحل عنَّا اليوم بصمت الكبار وكبريائه سعيد بن مسعود مريخ بيت سعيد ورحل معه شيء من ظفار بلا أدنى شك عندي، ظفار التي أحبها فأحبته وأقتطع لها بضعة منه ليشبهها إلى حد التطابق. لم يكن سعيد مسعود شخصية عابرة على قارعة التاريخ الاجتماعي لمُحافظة ظفار ولا شخصية طارئة ولا متطفلة عليه، بل كان شخصية محورية تُشبه ظفار في كل شيء، فهو "جبالي" أصيل وفخور بنشأته وانتسابه القبلي ووالدته من المدينة ومن نسب كريم وله أنساب في مشارق ظفار ومغاربها وزاد عليها تعامله الإنساني ووعيه العميق وعلاقات شخصية واسعة في أقطار الخليج والعراق وبلاد الشام وأقطار المغرب العربي.
كل هذه الأقدار والخيارات والتجوال والترحال صنعت وشكلت سعيد مسعود الفرد والجماعة معًا، فسعيد كان كجميع أقرانه في مرحلة ما من حياته فردًا في مجتمعه وفي لحظة تاريخية قرر أن يكون جماعة ويُواجه المجهول حتى مطلع الفجر ويستجيب القدر.
كان سعيد مسعود مؤمنا بالتغيير والمستقبل الأفضل دون شطط أو مبالغة أو غلو، وكان دهاؤه الفطري والمكتسب يهديانه إلى اختراق حجب الزمن ورصد الاستحقاقات والنتائج قبل بواكير الحصاد، لهذا كان سعيد مسعود رقمًا وازنا مهمًا في طيف الحركة الوطنية العُمانية بل كان الرجل الضرورة فيها في مراحل حاسمة لحنكته ووسطيته وبراعته في توظيف الممكنات وخلق التوازنات.
كان سعيد مسعود رجلا مسكونًا بالسلام والحلول السلمية إلى حد القداسة رغم كل المظاهر المسلحة والعنفية التي عاش مراحلها طوعًا وكرهًا، رجل تعلم حساب الرياضيات والمحاسبة في حياته المبكرة وأغترابه فطوعها كثيرًا في حياته وعرف بفلسفة الكبار معاني أخرى للجمع والطرح والقسمة والضرب والفاقد والكسب في الحياة. اتصف سعيد مسعود بشجاعة أدبية كبيرة ترجمها في مواقف كثيرة من عمر وأطوار الحركة الوطنية وكان ناقدًا علميًا لنفسه وللحركة وسياساتها التي يعتقد بعدم صوابها رغم أنَّ الثمن قد يكون حياته.
بطبيعتي، أكره امتداح الموتى وأحب امتداح الأحياء، فالميت ليس له إلا الدعاء الحسن وطلب المغفرة، أما الأحياء فهم في أمس الحاجة للمدح بما بهم من خصال حميدة وقيم ومآثر، ولكنني حين أمتدح سعيد مسعود فهو بالنسبة لي لم يمت بعد وهو دين شخصي عليَّ بحكم علاقته الوثيقة جدًا بأبي – رحمهما الله - ثم علاقتي الشخصية بسعيد لاحقًا والتي كانت تتراوح بين مشاعر الزمالة والصداقة والعشرة الطيبة والارتياح الكبير المتبادل بيننا. فسعيد مسعود من الأشخاص القلة في حياتي ممن لم أشعر يومًا بالتحرج أو الحواجز في الحديث معهم وفي كل شيء رغم فارق السن بيننا، فقد كان بالنسبة لي كصديق طفولة وزميل دراسة وشريك غربة.
أعترف لكم بأنني سأفتقد سعيد كثيرًا كجسد وروح ومشاعر وصوت ودعابة وذاكرة جمعية عميقة وواسعة وضمير حي وتجربة حياة، ولكن عزائي لنفسي أنني عرفته عن قرب ودون وسيط وتحدثنا طويلًا في ظفار التي تسكننا، ظفار الساحرة الجميلة بكل ما فيها من تضاريس ومناخ ومكونات بشرية وطباع وعادات وتقاليد وقيم وأعراف، تلك ظفار التي أحبها سعيد مسعود الفرد وسعيد مسعود الجماعة حتى الثمالة فأحبته حتى أكسبته كل هويتها بسخاء الأم الحانية على النجباء من أبنائها.
قبل اللقاء:" أسوأ رحيل من يرحل عنك ولا يرحل منك"
وبالشكر تدوم النعم