قصة قصيرة جدا:

جُنـــــُــــــــــــــــــون!

د. موسى رحُوم عبَّاس| الرِّياض 

 

" أغلق فمك تماما، للحيطان آذان"

كان يقولها والدي كلَّ صباح، وأنا متوجِّه للعمل

"أنت ورثت الثَّرثرة عن خالك ( ل.س)، يا خوفي من هذا الفم الكبير!"

وهذا ما كانت تقوله أمي، وهي تسلمني صينية الشَّاي على مدخل غرفتي ونحن في اجتماع، كنا نتوهم أنَّه سريٌّ.

صرت أجلس إلى مكتبي في العمل زامًّا فمي طوال الوقت، حتى أصبحت عادة، لم أستطع التخلص منها أبدا، وكلُّ صوري التي يلتقطها لي بعض الأصدقاء أو الشَّامتين، تظهرني مغلق الفم بطريقة مبالغ فيها، حتى الهُوية الشَّخصية وجواز السَّفر! مرَّة ضحك لدرجة القهقهة موظف الجوازات في مطار (شارل ديغول) وقال وهو يحدق في الصورة المثبتة بالصفحة الأولى منه ساخرا على ما يبدو : ماذا تخفي في فمك، مسيو؟ أذكر أني بكيت كطفل.

صرت أراقب كل فتحة في جدار، وأنا واثق أنَّه ثمَّة عينٌ ترقب خلفه، ومن يومها لا يفارق المعجون جيبي؛ لأسدَّ به كل ثقب تقع عليه عيني، وصار النَّمل يعرف رائحة يدي؛ ليسارع في شقِّ طريقٍ جانبي له، ومن يومها صرت أعشق الوحدة لئلا اضطر لإغلاق فمي، كما تعمَّق شغفي للقراءة.

الفكرة الجهنَّمية التي استجلبتها من كتاب تراثي، بسيطة وفعَّالة، كثير من المجانين، لم يكونوا كذلك، جنونهم كان الدِّرعَ الذي كمنوا فيه؛ ليتَّقوا الجلادين وأشباههم، قلت: لماذا لا أشتري حريتي بالجنون؟!

مررت من أمام بوابة القلعة الأمنية – هكذا كنا نسميها - المجاورة لبيتي، وتعمدت البطء على غيرالعادة، سمعت صوت قعقعة السِّلاح وصوت الشاب أبي الشوارب – هكذا كنَّا نسميه أيضا- عندها تركت ما حملت مثانتي، التي تكاد تنفجر من كثرة السَّوائل التي شربتها منذ الصَّباح الباكر، اتسعت البقعة على ملابسي، وسال نهرٌ أصفرُ حتى الحذاء الرياضي الذي اشتريته من سوق التهريب ب(مضايا)(1) آخر مرَّة استدعيت للعاصمة، اقترب أبو الشَّوارب، وقعت عينه عليَّ، فضحك كثيرا، ونادى رفاقه؛ ليشاركوا في الضَّحك، ومن يومها وأنا لا أسير في الشَّارع إلا ببقعة كبيرة مصفرَّة، لا زلت أتمتَّعُ بهذه المساحة من الحريَّة، وبالكثير من الرَّائحة الواخزة التي تبعدُ الآخرين عنِّي!

..............

هوامش:

  اسم بلدة حدودية تكثر فيها البضاعات المهربة من لبنان

تعليق عبر الفيس بوك