نماذج عُمانية مشرقة

حاتم الطائي

 

نماذج النجاح تتحلى بالعصامية والمبادرة والمثابرة من أجل تحقيق الأهداف

إعادة الحياة إلى فلج الصعراني بالبريمي تجسيد لإسهامات المواطنين في التنمية المستدامة

وطننا يزخر بالعديد من النماذج المخلصة والطموحة وعلينا أن نتعلم منهم ونقتفي أثرهم

 

 

مثّلت الجولات التعريفية بجائزة الرؤية لمبادرات الشباب، في ولايات عبري والبريمي والرستاق وإبراء وخصب، فرصة للالتقاء بنماذج عمانية مشرقة تضيء بمعارفها وقصص نجاحها الطريق أمام كل ساعٍ إلى التميّز والتفوّق، وتمنح الأمل لكل باحث عنه، وتُعين على طريق التفوّق لمن يسلكه..

هذه النماذج التي سأسرد جزءًا من حياتها، تتشارك في ثنائية النجاح والمثابرة، بدلا من الاستسلام والإحباط.. نماذج تستحق بكل جدارة لقب "مثابرون" وأن تُكتب أسماؤهم بمداد من ذهب في دفتر الإنجازات الوطنية..

النموذج الأول هنا هو الأخ ناصر بن مبارك بن صدون السكيتي صاحب مصنع خيرات السلمي للحلوى العمانية بولاية عبري الواعدة، والذي ورث حرفة صناعة الحلوى العمانية كابرا عن كابر، وكانت بداياته متواضعة ثمّ تدرج في جهود التطوير حتى افتتح مصنعا عام 1999، وواصل التوسّع في المصنع، إلى أن بلغ عدد الآلات المستخدمة في صناعة الحلوى العمانية 17 آلة بدلا من آلة واحدة في البدايات، مستعينا في ذلك بالخبرات الصينية المتطورة. لكن أهم ما يميّز السكيتي أنّه يؤمن بشدة بأهميّة توظيف التقنيات الحديثة، بهدف تطوير الصناعة، وزيادة الإنتاجية والالتزام بمعايير الصحة والسلامة الغذائية. ولذلك نجد شهرة مصنع خيرات السلمي تتجاوز حدود ولاية عبري، ولا تتوقف عند المواطنين العاشقين للحلوى العمانية؛ بل أيضا السياح والزوار من دول الخليج والدول الأجنبية.

أمّا النموذج الثاني، فهو المهندس طالب بن أحمد الجابري وكيل فلج الصعراني بالبريمي، ذلك الرجل الذي استطاع أن يحشد الجهود الأهلية لإعادة إحياء الفلج؛ وهو من الأفلاج الداوودية، ويعود تاريخه إلى 3500 سنة تقريبا، ويكمن سر نجاح الجابري وأهالي ولاية البريمي في الإصرار على إعادة الحياة إلى فلج يئس الناس من رؤية المياه تجري فيه مرة أخرى، لكن بالهمم العالية والإرادة الصلبة والعزيمة التي لا تلين نجح أهالي البريمي وفي غضون 27 يوما فقط، في تحقيق ما كانوا يظنون أنّه مستحيلا، فَجَرت المياه وبدأت في إرواء الأرض. ليس هذا فحسب، فالأمر لم ينتهِ عند إعادة الحياة إلى الفلج، بل إنّ الجابري وفريقه من المثابرين يسعون إلى توظيف الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة في توزيع المياه بصورة أسرع وأكثر تنظيما بين المزارع.

هنا نحن أمام مجموعة من المواطنين العصاميين الذين قرروا الأخذ بزمام المبادرة وتحطيم القناعات السلبية.. مواطنون عزموا على المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في أزهى صورها، لجأوا إلى الإرث الحضاري الذي تركه لنا أجدادنا العظام وأزاحوا عنه تراب السلبية وصخور الكسل الذي أصاب البعض، ليعيدوا البريق إلى كنز عانى كثيرا من الإهمال وعدم الصيانة. وهذا النموذج يدعونا للتفكير في الحاجة الماسة إلى إعادة الحياة إلى مئات من الأفلاج المندثرة، حتى تزدهر الزراعة ونستفيد من خيرات أرضنا.

قصة نجاح أخرى، يسردها لنا الشيخ سعيد بن خلفان المعمري الذي يواصل الليل بالنهار لإنشاء أول "سفاري زوو" في السلطنة، وإبراء على وجه التحديد، لتكون عامل جذب سياحي بمدن وولايات الشرقية الشهيرة برمالها الذهبية وكثبانها الناعمة. والشيخ سعيد من الأشخاص العصاميين الذين بدأوا مسيرتهم منذ الصغر، واستفادوا من خبرات الحياة وغاصوا في تفاصيلها، فاكتسبوا الخبرات وازدادت قوتهم على مجابهة التحديات، إيمانا منهم بأنّ النجاح لا يتحقق دون عمل دؤوب وجهد حثيث. وهذا المشروع العملاق استغرق حتى الآن أكثر من 7 سنوات من العمل المتواصل، والذي بدأ باستصلاح 100 ألف متر مربع من الأرض وزراعتها وتجهيزها. وقد عمل الشيخ سعيد على اكتساب العديد من الخبرات خلال تلك الفترة، حيث زار العديد من دول العالم وجلب أنواعا مختلفة من الحيوانات، ونجح المعمري في جلب حيوانات تدخل عمان لأول مرة، مثل حيوان الدب، الذي قضى أكثر من 6 أشهر للانتهاء من إجراءات تخليص التصاريح المطلوبة لنقله إلى السلطنة.

رأيتُ بعيني تماسيح ضخمة نجح أيضا في جلبها من أدغال أفريقيا، وروى لنا كيف استطاع الحصول عليها وتعلم كيفية العناية بها وببيضها وتكاثرها، فضلا عن التعامل معها كحيوانات شرسة تتطلب احترازات عدة.

تجربة الشيخ سعيد تستحق التأمل والنظر إليها بعين ثالثة، فهو ليس ذلك الرجل الذي قرر بعد التقاعد أن يركن إلى حجرة في منزله أو أن يعتكف، بل عزم على مواصلة العمل "طالما في الصدر قلب ينبض"، واستطاع أن يخطط، ويحقق حلمه الذي طال انتظاره، وقد اقترب من إنجاز أول حديقة حيوان مفتوحة في السلطنة ومن المقرر قص شريط افتتاحها العام المقبل تزامنا مع احتفالات البلاد باليوبيل الذهبي للنهضة المباركة.

غير أنّ ما لفت انتباهي في مشروع الشيخ سعيد، حسّه الوطني العالي، وحرصه الكبير على إشراك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مختلف الأعمال التجهيزية لمشروع سفاري إبراء، حتى فيما يتعلق باستيراد الحيوانات، فقد تمّ من خلال شركات عمانية ورواد أعمال شباب، دعموا الفكرة واستفادوا من العمل في المشروع. فمثلا قامت شركة المها العربي ومقرّها في صحم باستيراد الحيوانات، فيما تُقدِّم "عيادة النجاح" مختلف الخدمات البيطرية للحيوانات، وكذلك توريد علف الحيوانات الذي يتم من خلال شركة "روابي الخريف" بالمعبيلة في مسقط.

لكن دعونا ننظر بعين ثالثة- كما ذكرت- إلى عوامل نجاح هذا المشروع لنجد أنّ "مثلث النجاح" يتمثل في اكتساب الخبرات الكافية في مجال بناء حدائق الحيوان ورعايتها، وإعداد دراسة جدوى وخطة تنفيذ محكمة من الناحيتين المالية والإجرائية، وأخيرًا استشارة المُتخصصين في كل مراحل المشروع. وهذه العوامل التي تبدو بسيطة، لا يحققها سوى المثابرين، الراغبين في التميز والنجاح؛ فكم من مشروع وُضعت له دراسة جدوى لكن لم يُكتب له النجاح، لأنّ أضلاع مثلث النجاح الأخرى لم تكتمل؛ ما يؤكد ضرورة تكاملية الأعمال.

نموذج آخر من الشرقية هو حمدان الحجري صاحب مخيم المها الصحراوي، وهو من أفضل المخيّمات في الشرقية.. بدأ الحجري بمشروع بسيط ثمّ توسع فيه حتى زاد عدد الغرف في المخيم إلى 120 غرفة، تُقدِّم للآلاف من السياح وخاصة الأوروبيين تجربة استجمام فريدة من نوعها وسط الصحراء خلال موسم الشتاء الدافئ في السلطنة، علاوة على خدمات فندقيّة بجودة عالية وفق المعايير الدولية، وكلها بأيادٍ عمانية شابة وطموحة.

ثالث النماذج التي أضاءت رحلتنا إلى إبراء، هي رائدة الأعمال نعمة بنت أحمد الإسماعيلية التي نجحت في تأسيس فندق "الأضواء" ذي الثلاث نجوم، ويقدم خدماته منذ 3 أشهر إلى نزلائه من مختلف الجنسيّات، وبات يُمثل إضافةً نوعيّة لقطاع السياحة في الشرقية..

الإسماعيلية إحدى تجليّات الإصرار العماني، وهي انعكاس لقيم عمانية أصيلة يتحلى بها مجتمعنا منذ القدم.. إصرار نعمة الإسماعيلية على إنجاز التراخيص المطلوبة وبناء الفندق كان نابعًا من إيمان راسخ لديها بأنّها ستصل حتمًا إلى حلمها في يوم ما. ولذا تحوّل مشروعها الآن من مجرد طموح شخصي إلى مشروع سياحي يسهم في تحقيق التنويع الاقتصادي، وتوظيف الشباب العماني، ودعم جهود التنمية الشاملة في ربوع الوطن الغالي.

وفي جولتنا بولاية الرستاق، التقينا بالبطلة نظيرة الحارثية، التي حفرت اسمها على قمة إيفرست الأعلى في العالم، ونجحت في الصعود إلى هذه القمة بعد عامين من التدريب المكثف والتمارين الشاقة على تحمل أقصى درجات الضغط النفسي والعصبي في ظروف غير طبيعية لأي إنسان..

نظيرة بالنسبة لي نموذج للإلهام، وخاصة لقريناتها من العمانيات اللائي يواجهن الكثير من التحديات في العمل، فهي تمثل لهنّ الآن قدوة حسنة تحفزّهن على المثابرة والتحلّي بصفات إيجابية عديدة، مثل العصاميّة وتحمّل الضغوط والإصرار على النجاح، والإيمان بأنّ الحياة تتطلب الجهد والعمل بأقصى طاقة لكي نحقق أحلامنا ونصل إلى الأهداف التي نسعى وراءها.

نموذج آخر هو المهندس سعيد الراشدي الذي استعرض الكثير من عوامل نجاح رائد الأعمال، وكيف يمكن لرائد الأعمال أن يحقق طموحاته ويتحلى بالإيجابية والمثابرة في كل خطوات مشروعه، وأن ينزع عنه رداء الإحباط أو اليأس.

وإلى الشمال؛ حيث مسندم بتاريخها الضارب في القدم وجبالها الشاهقة، زرنا ولاية خصب والتقينا بالعديد من العصاميين والمواطنين الذين قرروا أن يتحدوا الظروف ويكافحوا من أجل تحقيق حلمهم، فالتقينا برائد الأعمال عبدالفتاح الشحي.. نموذج مشرق للشاب العماني الذي قرر أن يمضي في درب الأجداد ويقتفي أثر أسياد البحار من الربابنة العمانيين، فبدأ صيادا للأسماك، ثم طوّر نشاطه البحري ليقدّم خدمات الرحلات البحرية الترفيهية للسيّاح في أخوار مسندم الفريدة من نوعها، فصادق الدلافين وحفظ عن ظهر قلب مسارات الأخوار ليمنح السياح تجربة ترفيهية لا تنسى. عبدالفتاح الشحي قرر أن يتوسّع ووضع حلما نصب عينيه، في أن يملك يختا ويسميه "رباع" على اسم جده، وسعى كثيرا للحصول على قرض من بنك التنمية العماني لكنّه لم ينجح في ذلك، فلم ييأس أو يضربه الإحباط، بل ثابر وكرر المحاولة مرة أخرى مع بنك تجاري، ليحصل على القرض ويصنع اليخت بنفسه وتحت إشرافه، وما لبث أن كشف لأهله عن المفاجأة التي أعدّها لهم وصبر عليها طيلة سنوات من العمل المتواصل، فكان اليخت "رباع" بفخامته العمانية الأصيلة ومعاصرته لأحدث تقنيات الملاحة والإبحار، فصار "رباع" الآن علامة بارزة في قطاع السياحة بمسندم.

خلاصة القول.. أننا هنا أمام نماذج عصاميّة وطنيّة، قررت الإمساك بتلابيب الأمل والإصرار على النجاح، والمثابرة في العمل وتحمّل الضغوط، والمبادرة بكل إيجابية للإسهام في تنمية الوطن، ولم تركن إلى الإحباط واليأس الذي يريد البعض أن يغرق شبابنا فيه..

والحكومة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تعمل على تبسيط الإجراءات أمام هؤلاء الشباب؛ ليبدعوا ويقدموا الكثير من المأمول منهم، خدمة للوطن.

إنّ هذه النماذج الرائدة يجب أن تكون قدوات حسنة لكل مواطن ومواطنة؛ أيًّا كان سنّها أو خبراتها الحياتية، فالنجاح لا يعترف سوى بالإصرار والاجتهاد والمثابرة والمبادرة والتحلّي بالعصاميّة وعدم اليأس، فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.