من أدبيات الريف (2-2)

علي بن سالم كفيتان

نام الجميع إلا أنا وأبي الذي كان جالسًا على النار، وفي منتصف تلك الليلة قُلت له: "أيحقُّ لي أن أقبل أمي؟"، قال بتردُّد: نعم، فقلت له: "الآن؟"، قال: نعم.. أوقد أبي النار، وأنا تسللت إلى أمي، فكشفتُ عن وجهها وقبَّلتها وأنا أبكِي، وكنتُ خائفةً من توبيخ أبي، لكنه ترك لي كاملَ الفرصة لأودِّعها؛ فكان وجهها الملائكي يلمعُ في وسط تلك الظلمة، وفي أحيان أخرى أرَاه مع ضوء النار؛ فكانت تُضيء لي وجه أمي وتحرقُ فؤاد أبي، الذي كان صامتا، وبينهما كان إخواني يغطون في سبات عميق، ولم أفارق جنب أمي تلك الليلة، حتى أَذَّن أبي لصلاة الفجر، فتوضَّأنا للصلاة، وأدَّيناها بخشوع الفقد والخوف والرجاء من الله أن يَرْحَم أمي، وبعد ذلك تقاطَر علينا رجال القرية، فغُسِّلت أمي من ماء الينبوع، وكُفِّنت برداء أبي، وكان نعشُها من أغصان الريف الغضة الطرية، وغادرنا الموكب الجنائزي -قبل الضحى- المدينة؛ حيث يقبر الموتى.

كان نهاراً مريراً؛ فبعد مُغادرة الجنازة مع الرجال، زاد عويل النساء وبكائهن، فانفطر قلبي وقلب إخواني الصغار الذين بكوا للمرة الأولى، فهم لم يُدركوا بعد أن الموت يعنِي الغياب عن الوجود، إلا بعد أن رأوا الرجال يحملون أمي على أكتافهم، وتعالت أصوات النساء بالبكاء، عندها بحثوا عني في ذلك الجمع النسوي، وانطلقوا إلى حُضني وبكوا، وهم يسألون: إلى أين سيأخذون أمي؟ ردَّتْ عليهم خالتي وهي تبكي: تعالوا معي إلى البيت نُرتِّب الأمور. وبهذه الطريقة، أخذتنا إلى الداخل، وتصرفت بشكل عفوي، لقد صحبتنا بعيدا عن البكاء، رغم أنها كانت تبكي، وبعد أن شرب الصغار الحليب ذهبنا معها إلى الغابة وهي تقول: عليكم بجمع ما يكفي من الحشائش لعجولكم. نعم، كانت خالتي سيدة ذكية؛ فقد تقاطر حولها الصغار، بينما أنا وهي نجلس إلى ظل شجرة حتى العصر.

وفي المساء، عادَ أبي مع راحلته، لكنها كانت محملة على غير المعتاد، ويبدو من بعيد كأنَّ معه أحدًا، إنَّها جدتي لأبي، تنفَّست الصعداء، فهناك من سيكون معنا، إنه القلب الرحيم والأصل العظيم، جدتي التي أتت تتكئ على عصاها الغليظة. عندما شارفتْ على الوصول، ركضنا جميعا إليها دون شعور أنا وإخواني، فأخذتنا في حُضنها، ولم تبيِّن لنا أي لحظة ضعف، بل مسحت على رؤوسنا وتقدمتنا إلى الكوخ، وعلامات السرور رغم الحزن كانت بادية علينا، إنَّها جدتي التي أخذت مكان أمي؛ فكانت ذلك القلب الكبير الذي لمَّ شملنا مجدداً، وضمَّد جراحنا، إنها سيدة من العهد القديم، تعوَّدت على الوقوف في وجه عاديات الزمن، فرغم تقدُّمها في العُمر، إلا أنها لا تزال قوية بما يكفي لتدير أسرتنا الصغيرة؛ فحلت معها البركة؛ فالقطيع تكاثر، وزاد الحليب، وتضاعف إنتاجنا من السمن البلدي، وبارك الله في زرعنا ذلك العام، حتى إننا خزنَّا ما يكفينا لعام كامل من البقوليات والذرة، واستطعنا تأمين ما يكفي من سمك السردين كعلف للمواشي.