(مجرد ثرثرة) للكاتبة الليبية سهام الدغاري

 

مصطفى جمعة | ليبيا

 

تأخذ المسافات في لغة الكاتبة المميزة سهام الدغارى أبعادا لها مغزى آخر عندما تقاس بالكلمات؛ فالمسافة هنا هي مسافة الفهم الذي يشكله الخطاب – الثرثرة - التي هي ليست مجرد ثرثرة بل محاولة للحوار مع الصمت جلوس الثرثرة إلى جانب الصمت محاولة لإسكات ضجيج كبير من المشاعر ((هناك على مسافة مائة كلمة ثرثرة تحاول إغواء الصمت بالجلوس إلى جانبها وهنا وعلى مسافة ألف شتاء حلم يراود غيمة عن هطولها)) بين الـ (هنا) والـ(هناك) مسافة تتجاوز حدود الكلمات الى الفصول و تتخطى حدود الزمان والمكان ٔأيضا.

ف(هناك) تبدو مائة كلمة أقرب كثيرا من الـ (هنا) والذي يوحي بأنه الأقرب لكنه علي مسافة أبعد بألف شتاء! هي ليست محاولة عبثية لتأطير الزمان والمكان والـ(هنا) والـ(هناك) لكنه تموضع حقيقي يناسب الصمت ويناسب الحلم فالصمت بعيد والحلم أبعد.. لكن مراودة السحابة عن هطولها ليس إلا رجاءً وخيطًا واهنًا من الأمل.

((وفي الغرفة المهجورة ضوء خافت ينتظر الصباح ليحظى بإغفاءة قصيرة))؛ والغرفة المهجورة حيث الصمت والظلام والوحشة تضم هذه المسافات داخل حيز الانتظار المتعب بأمل خافت أتعبه ال صراع مع الظلام ذلك الصراع الذي لن ينهيه إلا الصباح الساطع بالضوء – الحقيقة - وسينتهي بأن يستسلم الأمل ..ويغفونويأتي التأكيد على حقيقة وجود وحضور هذا المشهد بشكل مباشر؛ ((المشهد ليس خرافياً، ولكنها تحاول رسمه بمجاز محموم)).

هذه المحاولات أشبه بمحاولة برهنة بالخطوط لا بالكلمات فالخطين المتوازيين مساران لا يمكن أن يلتقيا ولا يمكننا أن نجعلهما يلتقيا؛ بل يمكننا قطع هذا التوازي بخط آخر يخلق نوع من الزوايا المتناظرة علي جانبي هذا التوازى أو يمكن لهذا الخط أن يتحايل على هذه البدهية شبه الهندسية بأن لا يكون دائما مستقيما!! ((بعد أن توصلت لحقيقة أن الخطوط القاطعة لاتكون مستقيمة على الدوام تحديداً وهي تحاول قطع خطين متوازيين صنعهما عجوزٌ أعرج يسير على الشاطيء بمساعدة عكازين قديمين)). مساران صنعهما ذاك العجوز الأعرج الذي هو ربما الزمن وهو يتوكأ على عكازيه - الأيام - جانبين من الحياة لكل زمنه الخاص يسيران في اتجاه واحد؛ لكن ليس ليلتقيا مهما امتد بهما المسير.

ثم وبما يشبه العودة إلى الماضى أو الـ flash back يأخذنا النص إلى مشهد من نوع آخر إلى حدث في حيز الزمان والمكان وبلقطات تختزل القصة إلى نوع من الدراما السريعة.. زغاريد..فرح ..لاعلى شكل زخرفة لا معنى لها.. خيبة أمل..لاصرح من الأمل والوعد بالسعادة يتلاشى.. بداية رحلة الصمت .. ((ذات وهم حين كانت الزغاريد تتدافق من كل حدب وصوب تدق أطناب سمعها وحين جاءوا لها بالفرح في علبة كرتونية مزركشة حينها ترهل وجه السعادة في مقلتيهاتهاوت وهي تهدي للصمت صرختها الأولى)).

هنا بدأت رحلة الصمت التي هي رحلة الكتابة التي ستحاول بها سهام الدغاري إعادة بناء الذات، واعادة وترميم ما انهار من المشهد:

 ((فقررت أن تعيد بناء ذاتها بالكتابة

رغم يقينها بأن الكتابة ثرثرة

وأن الثرثرة لاتتوقف عن إغواء الصمت بالجلوس إلى جانبها

وخدش خرافية المشهد

التي فشلت في محاولة رسمه بمجازها المحموم))

ذلك الصمت الذي سيمتلئ كتابة - ثرثرة - وسيصنع الفارق في المكان والزمان في الـ(هنا)والـ(هناك) في الكلمات والفصول ليعود بنا النص في براعة إلى المشهد الأول تلك الثرثرة التى تحاول إغواء الصمت بالجلوس إلى جانبها.. ولا أعتقد أنها فشلت في محاولة رسمه بمجازها المحموم.

***

النص

مجرد ثرثرة – سهام الدغاري

 

هناك على مسافة مائة كلمة ثرثرة تحاول إغواء الصمت بالجلوس إلى جانبها

وهنا وعلى مسافة ألف شتاء حلم يراود غيمة عن هطولها

وفي الغرفة المهجورة ضوء خافت ينتظر الصباح ليحظى بإغفاءة قصيرة

المشهد ليس خرافياً

ولكنها تحاول رسمه بمجاز محموم

بعد أن توصلت لحقيقة أن الخطوط القاطعة لاتكون مستقيمة على الدوام

تحديداً وهي تحاول قطع خطين متوازيين

صنعهما عجوزٌ أعرج يسير على الشاطيء بمساعدة عكازين قديمين

ذات وهم

حين كانت الزغاريد تتدافق من كل حدب وصوب

تدق أطناب سمعها

وحين جاءوا لها بالفرح في علبة كرتونية مزركشة

حينها

ترهل وجه السعادة في مقلتيها

تهاوت وهي تهدي للصمت صرختها الأولى

فقررت أن تعيد بناء ذاتها بالكتابة

رغم يقينها بأن الكتابة ثرثرة

وأن الثرثرة لاتتوقف عن إغواء الصمت بالجلوس إلى جانبها

وخدش خرافية المشهد

التي فشلت في محاولة رسمه بمجازها المحموم •

 

تعليق عبر الفيس بوك