ملتقى الأثرياء في صلالة

د. عبدالله باحجاج

بَيْنما كنتُ في جلسة عصف ذهني لاختيار موضوع لمقالي الأسبوعي بجريدة "الرؤية"، فإذا بدعوة تستوقفني من الجريدة نفسها، لحضور ملتقى سيُعقد قريبا في صلالة عن المسؤولية الاجتماعية للشركات. وتخصيص المسؤولية الاجتماعية للشركات "حصريًّا" أمرٌ مُثير للوعي واهتماماته؛ لأنه يشكل قضية من أهم قضايا الساعة على الصعيد الوطني، فتعظيم مسؤولية الشركات الكبيرة ورجال الأعمال البارزين -الآن بالذات- أصبح قضية وطنية بامتياز، في ظل تحولات الدولة الاقتصادية والمالية، وإعادة هيكلة اقتصادها.

وكذلك في ضَوء مفاهيم مغلوطة عن أبعاد التلويح الآن بالمسؤولية الاجتماعية للشركات ورجال الأعمال، وهل هي -أي المسؤولية- ستكون بديلا عن المسؤولية الاجتماعية للحكومة؟ وكذلك عن هدف هذه المسؤولية، هل ستكون توفير اللقمة أو الكسوة للمحتاجين، أو عبر المساهمة في صناعة تنمية مستدامة للحفاظ على كرامتهم؟ وذلك انطلاقا من المقولة الشهيرة: "لا تعطيني سمكة وإنما علمني كيف اصطادها!".

ومن فلسفة تلكم العبارة، ينبغِي أن يدور محور المسؤولية الاجتماعية للشركات ورجال الأعمال البارزين؛ أي الحديث هنا عن البُعد التنموي، وانتشال فئات المحتاجين من قبضة العجز والحرمان، وتحويلهم إلى مُنتجين مُتفاعلين داخل مجتمعهم. ومن هنا، تنبثق أهمية الملتقى في هذه النقلة المعاصرة للمسؤولية الاجتماعية؛ وبالتالي فإننا نراهن هنا على ترسيخ ثقافة التنمية عند رجال الأعمال والشركات؛ فثقافة الإطعام والكسوة لا تزال هي المهيمنة على فكرهم؛ لذلك فمسؤوليتهم الاجتماعية تنحصر غالبا في أعمال خيرية غير تنموية، دون التفكير في تغيير المستوى المعيشي للمحتاجين "فلسفة السمكة".

لذلك؛ نستقبل مبادرة عقد الملتقي للشركات ورجال الأعمال، والتي هي في الأساس "ملتقى الأثرياء في صلالة" بأنها تنمُّ عن وعي بالواقع الاجتماعي والوطنى ومآلاته، وما ينبغي لكبار الأثرياء ومن يملك المال والاقتصاد القيام به لمواكبة التطورات المتلاحقة الداخلية، وتحدياتها الجيوسياسية، ولتعزيز حُضُورهم داخل محيطهم الاجتماعي الذي سيتأثرون به سلبًا أو إيجابًا حسب النتائج أو التداعيات الناجمة عن التحولات التي بدأت من الآن ملامحها واضحة تماما.

ومن هنا، يستوجب القول، إنَّه ما دام المستهدف من الملتقى الشركات الكبيرة ورجال الأعمال البارزين؛ فينبغي الحرص على حضور كل الشركاء، وهم رجال السلطة المركزية والمحلية، وأصحاب الشركات الكبرى ورجال الأعمال البارزين، والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والكتاب والصحفيين ومؤسسات المجتمع المدني؛ فالملتقى كما يُقدِّم نفسه على أنه منصة عصف ذهني لرسم خارطة طريق للمسؤولية الاجتماعية للشركات ورجال الأعمال، عليه استيعاب واحتواء الكل في جلساته، وعلى الكل بمن فيهم صناع القرار مواصلة حضورهم فعاليات المجتمع كلها وليس الافتتاحية فقط، فذلك قد أصبح يسيء لأدائهم، ويقلل من أهمية الحدث.

ونتوقَّع من الحدث "الملتقى" أن يكون مُختلفا عن الملتقيات الأخرى، كأن لا يقتصر على إتاحة الفرصة للشركات الكبيرة على إبراز مُساهماتها في المسؤولية الاجتماعية فقط، إنما حملها على الالتزام الأخلاقي والقانوني والوطني بأجندات تنموية واضحة للمسؤولية الاجتماعية، تنقلها من حالة الإغراق التي هي عليها الآن، والقائمة على سد حاجة آنية أو استهلاكية إلى الالتزام بالمسار التنموي، كتوجُّه عام للشركات الكبيرة وكبار رجال الأعمال.

أي إحداث نقلة نوعية وكمية في مسؤوليتها الاجتماعية، قائمة على إقامة مشروعات تنموية تغيِّر من المستوى المعيشي للمحتاجين، وهنا نجد المقولة سالفة الذكر: "لا تعطيني سمكة، ولكن علمني كيف اصطادها" في مكانها المناسب، فلو أردنا أن نُعالج الظروف التي تنتج الحاجة أو الفقر؛ فلا ينبغي أن يكون جل هم هذه الشركات ورجال الأعمال الطعام والكسوة، وإنما إيجاد مصادر دخل دائمة لهم أو بيئات مواتية يُؤمنون به حاجياتهم، أي حل مشكلاتهم بصورة جذرية.

لذلك؛ نأمل من الملتقى أن يتَّجه مساره نحو تلك الاتجاهات المعاصرة، عِوَضا عن التنافس الإعلامي والإعلاني عن حجم المساعدات التي تُمنح للمحتاجين سنويًّا؛ فهذا سيخرجنا عن فهمنا للوعي الذي يخرج من الدعوة لعقد ملتقى للمسؤولية الاجتماعية للشركات، والابتعاد كل البعد عن مسؤولية الحكومة التقليدية التي غرقت المسؤولية الاجتماعية للشركات فيها، فنجد مُساهمتها الملموسة تكمُن في إقامة مظلات للمدارس أو مواقف للعربات أو رعاية الندوات والمؤتمرات.. من أموال المسؤولية الاجتماعية.

فالمسؤولية الاجتماعية للشركات ورجال الأعمال ليست بديلة للمسؤولية الاجتماعية للحكومة، ولا بديلة عن مسؤولية الحكومة في توفير الخدمات لمرافقها العمومية، بل تكاملية لتحقيق أهداف الاستدامة الـ17 كما جاءت في ميثاق الأمم المتحدة؛ والتي أبرزها: القضاء على الفقر، والقضاء على الجوع، وتحقيق الصحة الجيدة، والتعليم الجيد، والمساواة بين الجنسين، والمياه النظيفة والنظافة الصحية، وتوفير الطاقة النظيفة وبأسعار معقولة، وتأمين العمل اللائق ونمو الاقتصاد، وتعزيز الصناعة والابتكار، وتوفير مدن ومجتمعات محلية مستدامة، والإنتاج والاستهلاك بمسؤولية، والمحافظة على المناخ.

فكيف يُمكن تحقيق هذه الأهداف؟ علينا أولًا التسليم بمجموعة إشكاليات كبيرة، إضافة لغياب ثقافة العطاء التنموي عند رجال الأعمال والكثير من الشركات، والاعتراف بأن جهود الشركات ورجال الأعمال غير منظمة وهى مُبعثرة، كما الاعتراف بضرورة استحداث تشريعات جديدة وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني...إلخ. وهنا، نجدِّد اقتراحنا السابق بإقامة صندوق للمسؤولية الاجتماعية للشركات ورجال الأعمال في كل محافظة من محافظات البلاد، تجمع فيها أموال المسؤولية الاجتماعية وتدار من قبل شراكة ثلاثية تضمُّ: الجهات الحكومية وشركات القطاع الخاص والمؤسسات المدنية والفاعلين البارزين في كل محافظة؛ لأنَّ المسؤولية الاجتماعية في بلادنا تفتقر للشكل التنظيمي والمؤسسي والخطط والأهداف الممنهجة التي من شأنها تغيُّر وتحسن أوضاع الفئات الاجتماعية المستهدفة.

هل سنَرى من الشركات الكبرى ورجال الأعمال أوراق عمل في الملتقى تجسِّد لنا هذه المسؤولية الاجتماعية التي تحتمها مرحلة الدولة الجديدة أم سيكررون نفس المعطيات والمعلومات التي يرددونها في كل الندوات الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية للشركات؟ ففي كل ندوة أو ملتقيات تحرص الشركات الكبيرة على الترويج والتسويق لنفسها فقط من منظور المِنة والإكرامية، وحجم المبالغ المالية الكبيرة التي يصرفونها على المسؤولية الاجتماعية.

وبما أن الملتقى ستحتضنه صلالة، وسيكون باسمها، ومنها سيخرج بيان صلالة للمسؤولية الاجتماعية للشركات؛ فمن الأهمية التركيز على محافظة ظفار كنموذج لقيادة هذه المسؤولية في نسختها المعاصرة، ففيها شركات كبيرة، تخصِّص أموالا سنويا للمسؤولية الاجتماعية؛ فمثلا شركتين فقط، تبلغ مساهمة إحداهما مليون ريال والأخرى 400 ألف ريال. فكيف ببقية الشركات الأخرى؟ وظفار الآن مُقبلة على إقامة مشاريع صناعة ضخمة في المنطقة الحرة. فلو تجمَّعت هذه الأموال في صندوق خاص، وحُدِّدت له أهداف تنموية واضحة ومباشرة، وإدارة مهنية ورقابية فعالة، فيقينا أن الأوضاع الاجتماعية ستتغير شكلا ومضمونا.

نعقدُ على الملتقى آمالا كبيرة في إحداث تحوُّلات كبرى في مسؤولية الشركات الاجتماعية، وهذه فرصة مُواتية لوضع العربة في السكة الصحيحة، فنجاح رؤية عمان 2040، تتوقف على هذه المسؤولية وتكاملها مع المسؤولية الاجتماعية للحكومة وليس بدلا عنها ولا منافستها، وهذا لن يأتي إلا عبر مأسسة المسؤولية الاجتماعية للشركات ورجال الأعمال الغائبة، وعبر التكامل مع مؤسسات المجتمع المدني التي بدورها تفتقر للهيكل المؤسسي.. ومن المؤكد أنَّ الملتقى سيكشف واقعا مؤلما للمسؤولية.. يحتم التدخل فيه عاجلا إن أردنا الحفاظ على استقرار المجتمع في عصر الضرائب والرسوم.. والموضوع مفتوح للمتابعة.