"مدينة الله" لـ"حسن حميد" سرد يشدّ الأرض إلى السّماء(3- 5)

...
...
...

 

أ.د/ يوسف حطّيني| ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

 

ثالثاً ـ فلاديمير بودنسكي ولعبة الطواف في مداره:

حين تحدثنا عن اقتراب الرواية من أدب الرسائل وأدب الرحلات، وترجّحها بين الرومانسية والواقعية، لم ننظر إليها من زاوية حضور الشخصيات، وهي من هذه الزاوية (روايةُ شخصيةٍ)، وإن كان عدُّها "(روايةَ مكانٍ) يبدو أكثر بروزاً؛ إذ ثمة شخصية رئيسية تحتل مركز السرد، وشخصيات أخرى تدور في مدراها. نقصد طبعاً شخصية فلاديمير بودنسكي الأستاذ الجامعي الذي زار الأراضي المقدسة، بعد أن قرأ كثيراً عن القدس وعبّأ روحه استعداداً للزيارة، وبدا خلال كلّ مراحل الزيارة، من خلال رسائله التي يرسلها إلى أستاذه، متعاطفاً مع الفلسطينيين، بوصفهم مضطهدين، أكثر من كونهم أصحاب حقّ، في مواجهة ممارسات جنود الجيش الإسرائيلي الذين يسميهم (البغّالة)، وهم يمثّلون نموذجاً واحداً، وإن اختلفت تفاصيل أفعالهم، فهم "يجوبون الشوارع، يمشون بين الناس، وأبصارهم شائخة تبحث في كل مكان عن شيء ما"، ص233، ويهينون الناس، ويضربونهم، بسبب وبغير سبب، ويشعر كل منهم على الحاجز "بأنه ملك، وأنّ الآخرين، كل الآخرين الذين يريدون العبور من جهة إلى جهة هم عبيد"، ص59. أما بغالهم، فقد كانت حوافرها تقتل طيور الدجاج والحمام، وتفسد الأطعمة"، ص35، وهو الأمر الذي أبكى قلب فلايديمر وأدمعه، وجعله ينظر إلى المكان نظرة رومانسية، فالمكان المقدس عنده أبيض تماماً، لا يدنسه إلا هؤلاء؛ لذلك أشار إلى أنّ "لا شيء يفسد المكان، أو الهواء، أو الصفاء سوى هذه البغال السمان التي يعتليها الجنود السمان الثقال، وقد اعتلتهم خوذ الحديد الشاحبة"، ص14، وإلى أنّ هؤلاء البغالة "يبدون في هذا المشهد الرائق مثل نقطة سوداء حائرة"، ص14، كما أشار إلى المعنى ذاته، وهو في الطريق إلى أريحا حين قال عنهم "إنهم شوك المدينة"، ص133، وأشار في موضع آخر إلى أنّهم "غصة المكان"، ص90.

وكان هؤلاء البغالة لا يتورعون عن ضرب من أرادوا، وإهانة من أرادوا، والانتقام من الأدلّاء الذين يرافقون السيّاح في المدن والمخيمات الفلسطينية، والأماكن المقدسة، لأنهم لا يريدون أن تتجاوز حقيقة الصراع العربي الصهيوني أسوارَ سجنهم الكبير؛ فقد ضرب هؤلاء البغالة الشاعر ماجد ابو غوش في مخيم شعفاط؛ لأنه يشرح لفلاديمير وجو عن معاناة الفلسطينيين، ووبخه أحدهم توبيخاً شديداً لأنه رافق هؤلاء إلى المخيم:

"كان صوت البغّال نافراً يلوم الشاعر ماجد أبو غوش على إفساده لنا، يقول له: بدلاً من أن تأخذهم إلى متحف المحرقة اليهودية تأتي بهم إلى هذه الزبالة، إلى المخيم"، ص313.

وحسناً فعل حسن حميد حين لم يجعل هذه الشخصية الأقرب إلى الحياد الإيجابي تزور المحرقة، حتى لا يساوي بين الجلاد والضحية، كما فعل وليد بطل رواية "مصائر" لربعي المدهون؛ إذ إن وليد يذهب إلى متحف "ضحايا المحرقة"؛ ليقدّم للقارئ العربي، لاحقاً، ترضيةً بالحديث عن مجزرة دير ياسين، مقارباً بين ما يشوبه التشويه والأسطرة وما هو ثابت ومصور وراسخ في العقل والوجدان(1).

غير أن ما اعتور شخصيته من تناقضات في موقفه المتقلّب من عشيقته سيلفا يجعل منه شخصية إشكالية، تنظّر في الممارسة للحق الفلسطيني، وترتمي في نهاية النهار بين أحضان سيلفا، السجّانة الإسرائيلية التي أغلقت ملزمة الحديد على أصابع عارف الياسين،

وصورت له طبيعة عملها، وهي تبكي، تطهيراً لذنب مستمرٍ يتجلّى في تعذيب الفلسطينين اليومي على يديها، وتنكمش مثل قنفذ خلال الحديث عن السجن: "ما من مرة جاءتني فيها إلا وبكت طويلاً، إلى الحد الذي جعلني أشعر بأنها لا تأتي إلي إلا من أجل ان تبكي"، ص179.

لقد أخبرت سيلفا عشيقها فلاديمير، عن عارف الياسين الذي هرست أصابعه، وعن سعدية التي كانت شاهدة على قتلها في السجن، وأكّدت له أن "السجون مقابر حقيقية، ظلم وقهر وإماتة، حياة مرفوعة إلى آجال غير مكتوبة، روائح، وقرف، وأذيّات متكاثرة كالفطر"، ص150، وشرحت له طبيعة عملها بالتفصيل، حين أعطاها مدير سجن المسكوبية شلومو بيسي ورقة كتب لها عليها قواعد ذلك العمل:

"أولها يحدد لي مكان غرفتي وثانيها يقول لي جملة واحدة هي: كل من يدخل إلى هنا هو عدو، وثالثها يُفصح عن مبادئ تلخصها ثلاث كلمات: لا رأفة، لا رحمة، لا تعاطف، ورابعها يشير إلى توصيف هو: كلهم ذئاب وإن أقنعوك بأنهم حملان، وخامسها يحدد وظيفتي: انتزاع الاعتراف، وسادسها يحدد المآل: نريدهم أن يخرجوا من هنا، أي السجناء، أمواتاً جسداً وروحاً، وسابعها تحذيري: معلومات المكان سرية للغاية وهي ملك للمكان فقط"، ص151. على أنّ كل ذلك لم يدفع فلاديمير إلى أخذ موقف نهائي حاسم منها، وبقي متردداً حيال تلك الشخصية التي تنهي حياتها منتحرة، كما يشير السارد الأساسي في إشارته التمهيدية. ويمكن لهذه للمقتبسات الآتية أن توضّح تقلباته بين المواقف المتناقضة، ففي حوار له مع سيلفا سألها: "لماذا حلوتم دور العبادة هذه إلى مطاعم واصطبلات؟ قالت: لأنها كثيرة، فالمسلمون والمسيحيون كانوا كثراً هنا ، ولكن بعد خروجهم إلى بلاد وامكنة أخرى باتوا قلة، وأصبحت الكنائس والمساجد فارغة"، ص250. وبعد حوار له مع عارف الياسين، نقرأ السياق التالي: "ومضيتُ، فصرخت سيلفا في ظهري: سألحق بك.. انتظرني. فاستدرت نحوها وقلت: أرجوك لا، فتجمّدت في وقوفها. أظن أنني كنت جلفاً وقاسياً أكثر مما ينبغي"، ص267. وهو يشير إلى تمزقه وتراجعه أمام جمالها في أكثر من سياق، ويمكن أن نشير تمثيلاً إلى السياقين التاليين:

  • "ما عدت قادراً على التمييز والمحاكمة، فانا ممزق بين ضفّتين، في الأولى سيلفا السجانة، وفي الثانية سيلفا العشيقة.. هناك ظالمة وقاسية ومتوحشة، وهنا مستسلمة وعذبة وحنون"، ص222.
  • "أعترف أنها امتلكتني، وأنني كنت أمامها بتمام عطشي، فقد بددتني بقبلها وهمهماتها ولمساتها وأنفاسها اللاهبة (...) نسيتُ كل ما قاله لي الفلسطيني عارف الياسين عنها، وغيّبت مشهد ملزمة الحديد التي دوّرت أصابع كفّه حتى جعلتها امتداداً لساعده، نسيت ألمه وتفجّعه، وقد فقد أصابعه"، ص219.

حتى إن لحظات الصحوة التي تباغته، من مثل رفضه أن تلحق به ذات لقاء مع عارف الياسين، أو من مثل رؤيتها باللياس العسكري، لا تستمرّ طويلاً:

"لم الحظ أي جمال فيها، لم أر حيويتها، ولا صفاء وجهها القمحي، ولم أقف عند شعرها المكوّر مثل قفّة، حتى صدرها لم ألحظه.. أما حذاؤها العسكري فهو غريب وموحش"، ص294، إذ سرعان ما يسقط في فخّ جمالها، ويستغفر صحوته، ويعود إليها:

"ورويداً رويداً نسيت نفسي، نسيت ثيابها العسكرية.. فعدت كما عهدتُ نفسي معها.. ضعتُ كما تشهيت أن اضيع في مدائنها"، ص296، فإذا ابتعدت عنه وتذكّر عذابات الفلسطيينين لام نفسه لوماً مؤقتاً، يؤرقه طول فترة غيابها عنه:

"صرت أحتقر نفسي وألومها، فأنا وأمثالي نساعد سيلفا وأمثالها على الاستمرار"، ص407.

وربما كان بإمكان الروائي أن يلعب لعبة صغيرة، لا تكلّفه كثيراً، وتقلب حيرة بودنسكي إلى فعل إيجابي، عن طريق التأشير في تمهيد السارد الخارجي إلى أنّ سيلفا وُجدت مقتولة، مثلاً، في السجن، فيصبح مقتلها، في تخيّل القارئ، تطهيراً لبودنسكي بدلاً من أن يكون انتحارها تطهيراً لها. لقد امتلكت سيلفا زمام المبادرة في موتها مثلما امتلكت ذلك في حياتها، وكانت قادرة على التحكم ببودانسكي، باستثناءات قليلة، منذ اللقاء الأول والقبلة الأولى: "رأيتها حين دلفت على المطبخ تغمس إصبعها فيما تبقى من قهوتي في فنجاني الكبير وتتذوقها: ما أطيبها، ثمّ تغمسها ثانية وتمسح بها على شفتي وهي تقول: تذوقها. فأخذتها بطرف لساني، وودت أن أقول لها إنها طيبة بالفعل، لكنّها فاجاتني بقبلة كالبرق على طرف خدّي"، ص86.

لقد كانت سيلفا طاغية دائماً حتى حضورها الجنسي؛ حيث اعتمد الروائي على لغته الذكية التصويرية، ليخلّص الجنس من ابتذاله اللفظي حين صور اللقاءات المتعددة بين بودانسكي وسيلفا، وكان هذا الحضور تأشيراً إلى قدرة جمالها الجسدي على العبث بوعي بودنسكي، وعدم إعطائه الفرصة للوصول إلى خياره الحاسم، ويمكن هنا ان نستعين بالمقتبسات التالية:

  • "أخذتها إليّ، واخذتني إليها، فصرنا غيمة تجول في فضاء لا حدود له، ولم أفلت منها، ولم تفلت نفسها مني، إلا وقد سال عسلها على شفتيّ"، ص87.
  • "دنت مني، فخاصرتها، يا لهذه الطراوة، ويا لهذا العبق.. مالت عليّ بعنقها فمرّغتُ شفتيّ بشفتيها، وجلتُ بهما على خدّيها، وانفها، وعينيها، وجبهتها، وأذنيها، وجيدها"، ص96.
  • "جاءت مثل بستان، مثقلة بالألوان، واللمعان، والروائح، والرؤى الساحرة، والشوق العميم، لكأنها كانت مثل رغيف الخبز الذي يتقمّر على مهل"، ص119.
  • "أنتبه، فأرى نفسي غارقاً في حوضة الماء الدافئ وقربي سيلفا، وقد غطانا الماء والبخار ورغوة الصابون (...) يا للنساء! ويا للماء! لكأنّ النساء بنات الماء"، ص124.

ويبدو الأمر أكثر تعقيداً حين يتعلّق بالحديث عن العلاقة بينه وبين العجوز أم أهارون التي أجرته غرفة في منزلها، فقد بدت في النصف الأول من الرواية شخصية قاسية جداً، تخاف على سيلفا من فلاديمير بودنسكي، وتبلغ الشرطة إذا تأخرت سيلفا في غرفته خوفاً عليها، وربما كانت هي التي وشت به حتى أُخِذ إلى السجن في النهاية، وهي التي ما فتئت تنظّر أمامه لمظلومية اليهود التاريخية المزيفة، وتحمّله، هو وقومه، جزءاً من المسؤولية تجاه عذاباتهم:

"أنفاق المترو شققناها، والطرق رصفناها، والحدائق زرعناها، واجيال منا انطوت في مناجم الفحم الحجري، وأجيال انطوت في السجون، أبي مات هناك، وأمي عاشت في مصحة للأمراض النفسية"، ص188.

وعلى الرغم من أنها لا تمتلك مؤهلات سيلفا الجسدية، فإنها تصبح في لحظة ما حملاً وديعاً حين تحدّثه عن حبيبها (البطل) الذي فقدته، واحتفظت بمذكراته وثيابه العسكرية، ص225، إلى درجة يشعر فيها أنها "كائن له إهاب خارجي يشبه الصخر، وروح ذائبة مثل القطر المسال"، ص226.

ولنا هنا أن نسأل: هل أراد أن يخرج حسن حميد من تنميط الشخصية الصهيونية، وهل أراد أن يبرز تناقضاتها؟ ربما. ولكننا نستطيع أن نرى مثل هذا التنميط في النموذج الجمعي المتكرر للجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، كما سنرى لاحقاً.

(يتبع...)

...............

هوامش:

  1. ربعي المدهون: مصائر (كونشرتو الهولوكست والنكبة)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت، ومكتبة كل شيء ـ حيفا، ط2، أيلول، 2015، ص224. ويمكن النظر في دراستنا:
  2.  مصائر "ربعي المدهون": حين تعبث الرواية بالتاريخ، في صحيفة الرؤية العُمانية، يوم 11 سبتمبر 2017.

https://alroya.om/post/195975

تعليق عبر الفيس بوك